هل تسهّل الحاجة طريق العودة أمام النازحين السوريين؟
يوم الإثنين الماضي، غادرت نحو تسعين عائلة سورية الأراضي اللبنانية من جهة الحدود اللبنانية الشمالية الشرقية. هي قافلة أخرى للعودة انطلقت من عرسال، حيث تراجعت أعداد النازحين السوريين من نحو تسعين ألف نازح قبل نهاية العام 2024 إلى عشرة آلاف تقريبًا وفقًا لمصدرين أحدهما لبناني والثاني سوري.
تأتي هذه المغادرة الطوعية للنازحين السوريين وسط تحدّيات معيشية في سوريا ووعود لم تُستكمل من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. وهذا ما يجعل جزءًا كبيرًا من النازحين السوريين متمسّكًا بإقامته في لبنان، بينما عادت نسبة ضئيلة من هؤلاء مجدّدًا بعد ما واجهته من صعوبة في تأمين معيشة عائلاتها في سوريا خلال الأشهر الماضية، وخصوصًا بسبب افتقاد بلدات سورية كثيرة لبنيتها التحتية، من إمدادات لشبكات المياه والكهرباء، ولمقوّمات العيش وحتى للمدارس والمؤسّسات الصحية.
في المقابل، أعلنت مصادر المفوضية السامية للاجئين UNHCR عن تسجيلها خروج نحو 191 ألف نازح من لبنان بشكل طوعي، وذلك في الفترة الممتدّة من 8 كانون الأول من العام 2024 أي تاريخ سقوط نظام بشار الأسد حتى نهاية شهر حزيران من العام الجاري. وهذا ما يوازي نحو ثلث حجم النازحين العائدين من مختلف بلدان جوار سوريا، والذين قدرت أعدادهم وفقًا لأرقام الـ UNHCR بـ 628 ألفًا.
إلّا أنّ العودة المبنيّة على قرارات فردية للنازحين السوريين يبدو أنها تفرملت حاليًا، بانتظار بدء تطبيق الآلية الموضوعة من قبل UNHCR أخيرًا، والتي تتضمّن حوافز مالية ولوجستية. ومع أنّ الخطوة تبدو مشجعة لكثير من العائلات التي حجزت أماكنها في قوافل العودة، فإنّ الآلية تسير ببطء شديد وفقًا لما أظهرته جولة ميدانية لـ "نداء الوطن" على بعض مخيّمات البقاع، بمقابل تروّي عائلات كثيرة في تسجيل أسمائها، بانتظار ترجمة الأقوال أفعالًا في تأمين الحوافز المالية للعائدين.
الآلية الأمميّة بين الترويج والتطبيق
استفسرت "نداء الوطن" من المتحدثة الرسمية باسم المفوضية ليزا أبو خالد حول الآلية التي ستتّبع لتأمين عودة السوريين، فأوضحت أنّ برنامج العودة الطوعية الذي جرى تعميمه، يتضمّن تقديم مساعدات نقدية وأشكال دعم أخرى من قبل المفوضيّة وشركائها، في كلّ من لبنان وسوريا، لمساعدة العائلات على العودة والاستقرار في وطنها، بالإضافة إلى دعم في النقل للراغبين في ذلك.
وانطلاقًا من هنا، ستوفّر المفوضية لمن يختار العودة من النازحين المقيمين في لبنان مساعدة مادية بقيمة 100 دولار أميركي للفرد. وعند الوصول إلى سوريا، تحصل كلّ عائلة عائدة على مبلغ 400 دولار أميركي.
وفقًا لمعلومات مستقاة ميدانيًا أيضًا، ثمّة خيار آخر مطروح على النازح، يقضي بأن تؤمّن له المفوضية مع شركائها وسائل النقل المناسبة، ولا يستفيد حينها الراغب في العودة من مبلغ المئة دولار الذي سيُمنح لكل فرد يختار وسيلته الطوعية الخاصة للانتقال من لبنان إلى سوريا.
تؤكد المفوضية أنّها تحرص على إيصال كلّ المعلومات حول آليتها التي وضعت على سكة التنفيذ إلى النازحين. وأرسلت إعلانًا عن برنامجها إلى هواتف المسجلين لديها، وهي تعمل وفقًا لتوضيحاتها على توفير جلسات استشارية للراغبين في العودة، تشمل إرشادات بشأن الوثائق الشخصية، على أن يتولى الأمن العام اللبناني قيادة إجراءات تسهيل الخروج، لضمان إتمام العملية بسلاسة.
تجارب شخصية في انتظار العودة
"أبو غسان" المقيم في أحد مخيّمات منطقة الفيضة في قضاء زحلة، هو واحد ممّن قرروا العودة مع عائلته التي تتألّف من أربعة أشخاص، من بينهم ولدان كانا سابقًا مطلوبين للتجنيد الإلزامي، وبالتالي كان ذلك عائقًا أساسيًا حال دون العودة إلى سوريا في وقت سابق.
يشرح "أبو غسان" لـ "نداء الوطن" أنه بعد تلقيه رسالة من المفوضية على هاتفه حول برنامجها لتأمين العودة الآمنة والطوعية، اتّصل على الخط الساخن، ضغط على رقم التحويل وأبدى رغبته في الاستفادة من البرنامج، وهو اليوم ينتظر إجراء المقابلة معه لتحديد موعد من أجل إتمام سائر الإجراءات. كل ما طلب من "أبو غسان" المفصول من مساعدات المفوضية بعد سنوات من هجرته القسرية إلى لبنان في العام 2013، كان رقم ملفه لدى المفوضية، إلى جانب اسمه واسم والدته وتاريخ ميلاده والمنطقة التي نزح منها في سوريا.
في المقابل، يشرح أنه من خلال الاتصال الذي أجراه، وضع أمام خيارين "إما أن نتلقى مبلغ مئة دولار عن كل فرد ونختار وسيلة العودة، أو نعود من ضمن القوافل المشتركة التي ستسير، وأنا وعائلتي اخترنا الخيار الأول".
قدّم "أبو غسان" ملفّه مكتملًا في بداية شهر تموز الجاري، وهو لا يزال ينتظر حاليًا اتصال المفوضية ليحزم أمتعته ويغادر، من دون أي توقعات مسبقة حول ما سيواجهه في حمص، المحافظة التي نزح منها، ولكنه يقول "عندما أتينا إلى هنا واجهنا الصعوبات وهناك سنواجهها أيضًا، ولكن حان وقت العودة الآن".
المدرسة ومستقبل الأولاد كحافز للعودة
الجو العام في سوريا هو ما يشجّع العديد من النازحين على العودة إلى بلادهم، ولكنّ الواقع الاقتصادي لا يزال يشكّل عائقًا أمام عائلات كثيرة، لا تتوقع تحسّنًا معيشيًا سريعًا بعد رفع عقوبات قيصر. وعليه تتمهّل في اتخاذ الخطوة وفقًا لما تشرحه "سطيم" إحدى النازحات من منطقة حلب مع عائلتها. لدى سطيم ثلاثة أطفال، اثنان منهما قد يخسران مقعديهما الدراسيين في العام المقبل، أما الطفل الصغير فلم يتعرّف إلى المدرسة بعد. وعلى الرغم من هذا التحدّي الذي تواجهه العائلة، لا تبدو مستعدة للعودة إلى سوريا حتى الآن. تقول "سطيم" "إن الأجواء ليست جيدة، وغير قادرين على حزم الموقف هل نعود أم نبقى؟ والمشكلة لم تعد أمنية أو مشكلة خوف من التجنيد الإلزامي، ولا حتى في المنازل التي تهدّمت في سوريا، خصوصًا أننا عائدون إلى أرضنا وبلادنا، وكما عشنا في خيمة هنا يمكن أن نعيش هناك، ولكن في انعدام الفرص الجيدة للمعيشة" وفقًا لـ "سطيم" "الزلم بدها تشتغل لتعيش وتعيّش عيالها". ومع ذلك تقول إن "دراسة أطفالنا ومستقبلهم التعليمي قد يشكلان دافعًا قويًا لعودتنا إلى سوريا، وفي نهاية فصل الصيف سنقرر ذلك".
الحال شبيه بالنسبة لسيدة أخرى تحفّظت عن ذكر اسمها، اختبرت عائلتها التشتت بين جنوب لبنان والبقاع، بعد العدوان الإسرائيلي، حيث يحتاج ربّ العائلة للحفاظ على مصدر دخله كعامل على "بوب كات" بينما هو غير قادر على الانتقال مع عائلته إلى سوريا.
أبعد من المساعدات المعروضة للمساهمة في كلفة الانتقال، تقول هذه السيدة إن المشكلة أيضًا في تأمين مصدر دخل، يبدو صعبًا حتى الآن في سوريا.
يبدو المستقبل التعليمي للأطفال في المقابل كتحدّ أساسي لمعظم العائلات السورية، التي تعتبر أن وقف منح التعليم قد يكون سببًا في عودتها إلى سوريا. علمًا أنه بحسب المفوضية، فإنه نتيجة لتقليص تمويل برامج دعم النازحين سيتمّ إيقاف مساعدات التعليم بشكل كامل بدءًا بالعام الدراسي المقبل، وبالتالي هناك 15 ألف طفل سيتوقفون عن الاستفادة من التعليم المجتمعي ودعم البقاء في المدارس. هذا بالإضافة إلى اضطرار المفوضية إلى إيقاف دعمها لتكاليف الاستشفاء للاجئين بشكل كامل بحلول نهاية عام 2025.
تعرض المفوضية هذه الأرقام بمقابل إشارتها إلى تراجع تمويل مشاريعها للعام 2025. إذ لم تتجاوز نسبة تمويل المفوضية في لبنان حتى نهاية شهر حزيران الماضي الـ 22 بالمئة من ميزانيتها المحدّدة. بينما هي تتحدّث عن مئة ألف نازح دخلوا لبنان بعد سقوط النظام السوري، وهناك حاجة لتأمين الدعم المتواصل لهؤلاء، في مقابل تراجع التمويل في جميع القطاعات.
النازحون الجدد... بين تعقيدات السياسة وتحدّيات العودة
يطرح واقع هؤلاء النازحين الجدد في المقابل أسئلة كثيرة، ليس فقط لكون عدد كبير منهم لم يسجل في أيّ من برامج الدعم، وإنما لكون ظروف هجرتهم السياسية من بلدهم تتطلّب تنسيقًا مباشرًا بين السلطات اللبنانية والسورية، وجزء من هذه العودة يبدو مرتبطًا أيضًا بتسويات إقليمية. وهذا ما يلوّح ببقاء ملف النازحين في لبنان مفتوحًا على نقاشات مطوّلة، قد لا تنتهي قبل حلّ معضلة الانقسام السياسي اللبناني حول مسألة نزع السلاح غير الشرعي وفرض سيادة الشرعية اللبنانية على مختلف أراضيها.
مقابل استمرار العودة الطوعية الاختيارية ومن خارج برامج الجهات الداعمة لمعارضي نظام بشار الأسد السابق، يقف لبنان حاليًا أمام تحديات نزوح مؤيّدي النظام "الساقط"، المستمرّ عبر المعابر غير الشرعية تحديدًا. إلّا أنّ محاولة استمزاج آراء هؤلاء حول إمكانية عودتهم مجدّدًا إلى بلدهم، تبدو صعبة، مثلما كانت الحال مع من سبقوهم إلى لبنان إثر اندلاع الثورة السورية، قبل أن يتحوّل هؤلاء من مهزومين إلى منتصرين في بلدهم.
وخوف النازحين الجدد أو توجّسهم من الإعلام الذي يعتبرونه متحيّزًا، ليس السبب الوحيد لهذا التحفّظ، وإنما الكثيرون منهم يمتثلون لتعليمات القيّمين على المحميات السياسية التي احتضنتهم، وأمّنت لهم المأوى، وتضعها تحت مراقبتها، وخصوصًا بالنسبة إلى النازحين الجدد من محافظة حمص ومناطق القصير والقلمون.
من عرسال إلى القصير: عودة من خارج الأطر الدولية
هذا في وقت تشكّل الهجرة المعاكسة لأهالي حمص المهجرين منذ العام 2011 إلى بلداتهم في القلمون والقصير، أبرز أوجه الطوعية في المغادرة، ويشكّل هؤلاء الجزء الأكبر من السوريين العائدين إلى بلدهم وفقًا لما يؤكّده منسّق حملات العودة من بلدة عرسال سامر عامر، ابن بلدة القلمون الذي اجتهد في الفترة الماضية في تسيير رحلات العودة لأبناء بلده بالتنسيق بين السلطات اللبنانية والسلطات السورية.
يشرح عامر لـ "نداء الوطن" أن عودة أهالي القلمون لها رمزيتها السياسية، وعليه فإن جميع رحلاتها كانت على نفقة النازحين، باستثناء قافلة واحدة موّلتها جمعية "شعاع الأمل السورية". فكانت محافظة حمص ومدنها الأولى التي استعادت أهلها، الذين يؤكد عامر أن معظمهم لم يجدوا فيها بيوتًا لهم، ولا سيّما في القصير، التي بدت بعد سقوط النظام كمدينة أشباح، ولكنهم مع ذلك أبدوا عنادًا في إعادة إعمار ما هدم وعلى نفقتهم، ومن دون أن يتلقوا أية مساعدة لا من الدولة السورية المنهكة أساسًا ولا من المفوضية.
وبالتالي هو لا يبدي ثقة كبيرة ببرنامج عودة النازحين الذي وضع حاليًا بالتنسيق مع المفوضية، إلى أن تبدأ ترجمته عمليًا على الأرض.
ويميز عامر في المقابل بين النازحين السياسيين الذين هجروا بلدهم قسرًا، وبين من سجلوا في المفوضية كلاجئين وبقوا يتردّدون إلى سوريا خلال وجود نظام بشار الأسد، ومن كانوا يعملون أساسًا في لبنان، واستفادوا من برامج الدعم المقدمة للنازحين من دون وجه حق. ومن هنا، يبدي تحفظات كثيرة على أداء المفوضية طيلة فترة الأزمة السورية، مبديًا خشيته من أن ينسحب أداؤها، الذي يعتبره سيئًا، على إدارة ملف العودة أيضًا، خصوصًا أنه حتى الآن لم تسيّر أي رحلة من قبل المفوضية وفقًا للبرنامج الموضوع من قبلها بالتنسيق مع الدولة اللبنانية، والعبرة برأيه بالتنفيذ.
خدمات أساسية مهدّدة وأمل العودة يتقدّم
في المقابل، تحذر المفوضية وفقًا للمعلومات التي تشاركها، من تداعيات خفض تمويل الجهات الداعمة على البرامج المخصّصة للعودة، لافتة إلى أنّ تجميد التمويل من قبل الولايات المتحدة تحديدًا، إضافةً إلى النقص الأوسع في مساهمات المانحين، خلّف تأثيرًا كبيرًا على قدرة المفوضية على تقديم الخدمات الأساسية لكلّ من اللاجئين والمجتمعات اللبنانية الضعيفة.
وتشير المفوضية بالأرقام إلى تداعيات هذا النقص في التمويل على أنشطة العودة لنحو 400 ألف شخص. وعلى توقف مساعدات الحماية الطارئة النقدية عن 56 ألف شخص. ووقف تقديم المساعدة النقدية من المفوضية لحوالى 347 ألف شخص. وحرمان 42 ألف نازح من مجموعات الإيواء أو تحسينات السكن، و 45 ألف نازح ومن بينهم نساء حوامل، من الرعاية الصحية الثانوية اعتبارًا من كانون الأول 2025. وكذلك حرمان أربعين ألف نازح من الرعاية الصحية الأولية. وهذا بالإضافة إلى ما ذكر سابقًا عن إيقاف مساعدات التعليم والمساعدات الصحية، التي يخشى أن تخلّف تداعيات على النظام الصحي اللبناني المتعب أساسًا، وعلى صحة النازحين من الفئات الأكثر ضعفًا. علمًا أن تداعيات تراجع التمويل بدأت تنعكس أيضًا على إعداد موظفي المفوضية الذين ذكر أنه جرى تخفيض أعدادهم بدءًا ببداية شهر تموز بنسبة ثلاثين في المئة.
إذًا بين عودة بقيت متعثرة لسنوات طويلة وآمال بظروف أفضل في سوريا، تتظهر هشاشة الواقع المعيشي للاجئين كعامل حاسم في اتخاذ القرار، بعيدًا من شروط الطواعية المثالية التي روّجت لها المؤسسات الدولية. فهل تتحوّل الحاجة إلى محفّز فعلي للعودة، بعد أن تقلّصت كل بدائل البقاء؟
لوسي بارسخيان-نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|