أداء السلطة الفلسطينية في لبنان: من الإقصاء إلى الاختلال الوطني
لا يُمكن مقاربة الأزمة المتفاقمة بين قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله وقيادة حركة "فتح" في لبنان، من دون التوقّف عند ما بات يمثّل سابقة خطيرة في مسار العلاقة بين الداخل والخارج الفلسطيني، بين المركز في رام الله والخارج الذي لطالما شكّل رافعة استراتيجية له، لا سيّما في لبنان.
فالقرار الذي صدر عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإستبعاد السفير الفلسطيني في بيروت أشرف دبور عن ملف فتح على الساحة اللبنانية، بعد أكثر من اثني عشر عاماً من العمل الهادئ والحيوي في أدقّ ساحات الوجود الفلسطيني وأكثرها حساسية، يعكس خللاً بنيوياً في كيفية تعاطي السلطة مع ملفاتها الخارجية، خصوصاً حين يتمّ تغييب الحقائق واستبدالها بتسويات شخصية أو حسابات ضيقة يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني في الشتات.
لقد استطاع دبور، رغم التحديات، أن يكرّس نفسه شخصية محورية في مقاربة الملف الفلسطيني في لبنان، متسلحاً بخبرة سياسية وديبلوماسية، وعلاقات متينة مع مختلف الأطراف اللبنانية على اختلاف انتماءاتهم السياسية والطائفية. وتمكّن، بذكائه وحكمته، من تحييد الساحة الفلسطينية عن كل الانقسامات اللبنانية، ومنع تحويل المخيمات إلى منصات تصفية حسابات داخلية أو إقليمية، في وقتٍ كان لبنان يرزح تحت أزمات أمنية وسياسية كادت تعصف ببنيته الاجتماعية.
إن السجل العملي لدبور لا يشفع له فقط، بل يجعله حالة نموذجية في التعاطي مع الواقع اللبناني شديد التعقيد، وقد عرف كيف يوازن بين مقتضيات السيادة اللبنانية، وبين خصوصية المخيمات كحاضنة إنسانية ووطنية لآلاف اللاجئين الفلسطينيين. وأكثر من ذلك، نجح في ضبط الإيقاع الأمني والسياسي داخل المخيمات، ونسج تفاهمات صلبة مع القوى اللبنانية والفلسطينية، بما جنّب لبنان تكرار مشاهد الانفجار التي لطالما ارتبطت بتجاذبات الفصائل.
في المقابل، يظهر أن رام الله تتجه نحو تصفية الحسابات داخل حركة "فتح" بوسائل لا تتّسق مع أبسط مبادئ التنظيم الحركي أو السياسي. فبدلاً من مقاربة الأداء من زاوية مصلحة القضية، تسير القيادة نحو منطق العقاب والاستهداف، بذريعة ملفات فساد لم تُفتح طيلة سنوات طويلة، إلا بعد خلافات شخصية بين دبور ونجل الرئيس الفلسطيني ياسر عباس، وصلت ذروتها حين أجرى الأخير اتصالات ومداولات في لبنان حول سلاح المخيمات من دون أدنى تنسيق مع السفارة أو قيادة "فتح" في الساحة اللبنانية.
هذا التداخل بين العائلي والسياسي، وبين الشخصي والتنظيمي، إنما يكشف أزمة أعمق في بنية السلطة الفلسطينية، التي تفشل مرة تلو الأخرى في إدارة اختلافاتها الداخلية بطريقة مؤسساتية، وتُغرق مؤسساتها في منطق الولاءات والقرارات الفردية.
كما أن قرار طرد عدد من الضباط الفلسطينيين في لبنان، بحجة "مناهضة الشرعية"، يعكس استخفافاً بمبدأ الشرعية نفسه، حين تتحوّل الشرعية إلى أداة إقصاء لا إلى ميثاق يحتضن التعدد والاختلاف. والأسوأ أن هذه "الانتفاضة الداخلية" تأتي في وقت يواجه فيه الفلسطينيون في لبنان تحديات مصيرية، من مخاطر نزع السلاح، إلى التضييق الاقتصادي، إلى التهديدات الأمنية اليومية.
ما يحصل اليوم، من محاولات لتصفية الموقع السياسي والوطني الذي شكله السفير دبور، لا يهدد شخصاً أو فريقاً، بل يهدد التوازن الدقيق الذي جرى بناؤه بصعوبة خلال ما جاوز عقدا من الزمن بين الدولة اللبنانية والمجتمع الفلسطيني فيها. وإن الإطاحة بهذا الدور لا يمكن إلا أن تكون وصفة للفوضى، وتعريض للمخيمات لحالة فراغ قد تستثمرها جهات متطرفة أو جهات خارجية.
أخيراً، من الضروري الإشارة إلى أن نقد السلطة في رام الله لا يهدف إلى ضرب مشروعها، بل إلى التنبيه من أن طريق تصفية الحسابات داخل فتح لا يمكن أن تمرّ عبر نسف ما راكمته الحركة من حضور ومكانة في لبنان، حيث لا يزال اللاجئ الفلسطيني يبحث عن الحد الأدنى من الكرامة والدور. وفي زمن الانهيارات الكبرى، يصبح الثبات على المبادئ والحرص على الكوادر الميدانية المخلصة، واجباً لا خياراً، وإلا فإن "فتح" تخسر نفسها، قبل أن تخسر جمهورها.
داود رمال – "اخبار اليوم"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|