من 12 نقطة… أوكرانيا وأوروبا تعدّ خطة سلام لإنهاء الحرب مع روسيا
هل تتمسّك الدّولة اللبنانية بالجنوب: كي لا يذهب "مع الريح"؟
"المقاومة". هذا هو التعليل لتاريخ كامل للتنظيم المسلّح غير الشرعي لـ "حزب اللّه" منذ نشأته في الثمانينات. ومع هذا، لم يطلق "الحزب" رصاصة واحدة دفاعًا عن حصّة لبنان بحقل كاريش، بل شارك، كشريك في العهد السابق، في تمرير تسوية التخلّي عن خط الترسيم البحري 29، لصالح إسرائيل، الخط الذي تبناه الجيش اللبناني والنواب المعارضون وشارع ثورة 17 تشرين. أمّا المفارقة الكبرى، فهي صمت "أبناء البيئة" من الجنوبيين وهم المتضرّرون الاقتصاديون المباشرون، عن صمت "حزب اللّه" عن ثروة الجنوب النفطية!
وهذا الصّمت ليس إلّا انعكاسًا لولاء بيئة "حزب اللّه" له، حتى ولو تعارض هذا الولاء مع مصلحتها. ولاء لصالح ما هو "غير شرعي" على حساب ما هو شرعي. ولاء يذكّرنا بأشهر أفلام الكلاسيكيات الأميركية Gone with the wind "ذهب مع الريح" المقتبس عن رواية بالاسم نفسه لمارغريت ميتشل، الذي خسرت فيه البطلة سكارليت أوهارا، ابنة الجنوب الأميركي، خلال الحرب الأهلية، والدها، وتركها زوجها ريد باتلر، بعد فقدانه الأمل من "ولائها" له، بعد أن قضت عمرها تلهث خلف حبّ "غير شرعي" لعشيقها آشلي. لتبقى وحيدة إلّا من "تارا"، أو مزرعة القطن الموروثة عن أبيها، وليست "تارا" في سياقنا هذا إلّا "الأرض" أي أرض الجنوب، والتي إن ذهبت أمام التمادي الإسرائيلي وعجز الدولة عن بسط سلطتها عليها، ذهب كلّ شيء مع الريح!
تشبه سكارليت، بيئة "حزب اللّه" جنوبًا، في ولائها لعشيقها آشلي، وهو دويلة "حزب اللّه"، عوض الولاء لزوجها الشرعي، ريد باتلر، ذي الأسلوب الساخر مع زوجته، وكأنه غير واثق من استحقاقه لها، تمامًا كالدولة اللبنانية الضعيفة أمام الدويلة. وضعف الدولة اللبنانية ليس وليد اليوم. فهل يستدرك العهد الجديد التحدّيات، مع تطوّر الاستهدافات الإسرائيلية لتطول فرصة الحياة نفسها في الجنوب، كي لا تذهب أرض الجنوب نفسها مع الريح؟
الولاء المصلحيّ... الدولة تاريخيًا غائبة!
يقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، "ما إن يتكوّن لدى الجماهير إيمان ما، حتى تخضع له، وتضحّي بكل شيء في سبيله". هذا هو جوهر الولاء الأعمى، حين تتحوّل الطاعة إلى إيمان، والإيمان إلى قيد يمنع التفكير في الذات والمصلحة العامة.
في "ذهب مع الريح" تعيش سكارليت أوهارا مأساة مزدوجة. المأساة الأولى هي الحرب في الجنوب الأميركي وتداعياتها: من النزوح، إلى وفاة أمّها ثمّ أبيها في ظروف الحرب، ثمّ الضرائب المتراكمة على أرضها "تارا" التي كادت تخسرها لولا زواجها المصلحي من زوج شقيقتها الغني... هكذا فرض "أمر واقع" الولاء المصلحيّ جنوبًا، بدءًا بتاريخه الإقطاعي مرورًا بالتنظيمات المسلّحة التي - وإن كان لها دور في تحرير الأرض- لكنها لم تكن لتفرض وجودها لولا ضعف الدولة المركزية. ودفع عامة أبناء الجنوب ثمن هيمنات متوالية عليه كما دفعوا الثمن الأكبر من الصراع اللبناني- الإسرائيلي.
أمّا حاضر أهل الجنوب اليوم، وتحديدًا بيئة "حزب اللّه" وجدلية الولاء له، فتشبه إلى حدّ ما، صراع الولاء العاطفي، لبطلة رواية "ذهب مع الريح"، بين عشيقها آشلي ويلكس الذي لا يبادلها الحبّ نفسه، بل يعود ولاؤه أوّلًا لزوجته ميلاني، وبين زوجها ريد باتلر.
والعشيق المتزوّج في المقاربة اللبنانية، هو "حزب اللّه" الذي يعود ولاؤه أيديولوجيًا لإيران عبر ولاية الفقيه. أمّا الزوج ريد باتلر، التاجر الذكي، والساخر حدّ التظاهر باللامبالاة أمام حقيقة عدم ولاء زوجته له، فهو الدولة اللبنانية، المقصّرة بحق كلّ أبنائها وليس الجنوب وحده.
ويشبه الولاء العقائديّ لـ "حزب اللّه"، شغف سكارليت أوهارا بعشيقها المفترض. ولاء غير منطقي لكنه عاطفي غرائزي طائفي. لكن الأخطر حتى من الولاء العقائدي، هو الولاء المصلحيّ.
فالتنظيم المسلّح لـ "حزب اللّه"، ليس إلّا جزءًا من دويلة اجتماعية عسكرية، اقتصادية قائمة بذاتها: رواتب للمجندين، رواتب لأهالي الشهداء، مدارس تلقن الأطفال درس "الشهادة" قبل درس "الحياة"، ودويلة قائمة بذاتها، من مستوصفات وجمعيات وصولًا لـ "القرض الحسن" كنظام مصرفيّ و "قضاء حزب اللّه". كلّ هذا التنامي لـ "الحزب"، مقابل خنق وجود الدولة جنوبًا، هو ما جعل أهله يرونها غير قادرة على حمايتهم أو غير مكترثة بذلك.
هكذا هو ابن الجنوب اليوم أو تحديدًا أبناء بيئة "حزب اللّه"، هم ضائعون في ازدواجية الولاء. فتارة يطالبون الدولة بإعادة الإعمار، وطورًا يرفضون وجوب تسليم سلاح "حزب اللّه" كممرّ إلزامي لإمساك الدولة قرار الحرب والسلم. لكن ما لا يقوله أبناء الجنوب جهارًا، هو أن أي هيكلية للدولة مهما كانت هشة، ترسي شرعية واستقرارًا، على عكس أي تنظيم يحتلّ الأفكار بأيديولوجيّته، إن لم يكن بسياسة الترغيب فبسياسة الترهيب، تحت عنوان "تحرير الأرض".
العهد الجديد... والتحوّل الرسميّ
ولم تكن ضربات إسرائيل الأخيرة، نقطة التحوّل الأولى في الموقف الرسمي اللبناني المواجه لخرق إسرائيل قرار وقف إطلاق النار مع لبنان. فتحوّل نوعية الضربات بدأ منذ استهداف عائلة أماني بزي، في مجزرة قتلت فيها إسرائيل أبًا وطفلين توأمين وشقيقتهما. عائلة لبنانية قتلت بدم بارد، دفء لبناني تحوّل لمأساة، فكان القتل الفجّ إنذارًا بما هو أبعد من استهداف البنية العسكرية لـ "حزب اللّه"، إلى جعل الأرض جنوبًا غير قابلة للسكن. وهو ما توّجته ضربات المصيلح منذ أيام وضربات بلدات في قضاء صيدا. إذ مع سقوط شهداء وجرحى، وخسائر في الجرّافات والسيارات والأرزاق بملايين الدولارات، بدا المقصود تدمير الحياة جنوبًا حتى قبل إعادة إعماره بل وتهديد عملية إعادة الإعمار نفسها.
انطلق قطار المواقف على قدر التحوّل، بدءًا بموقف تصعيديّ لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، الذي ذهب للتحليل السياسي، بسؤاله عمّا "إذا كان هناك من يفكر بتعويض غزة في لبنان، لضمان حاجته إلى استدامة الاسترزاق السياسي بالنار والقتل"، معتبرًا أن العدوان الإسرائيلي المتكرّر يأتي "ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى تدمير البنى الإنتاجية وعرقلة التعافي الاقتصادي واستهداف الاستقرار الوطني تحت ذرائع أمنية زائفة"، مطالبًا بـ "موقف دولي يضع حدًا لهذه الانتهاكات المدانة".
وقبل موقفه الأخير، كانت زيارته لأماني بزي للوقوف عند مصابها، بالتوازي مع زيارة وزراء الداخلية أحمد الحجار والأشغال فايز رسامني والعمل محمد حيدر للجنوب بعد ضربة المصيلح.
أمّا عبارة "الحكومة لا تسأل عن أهلنا في الجنوب، ولم تقل لهم حتى مرحبًا"، للرئيس نبيه برّي، فاستدعت ردًا حادًا من رئيس الحكومة نواف سلام، على برّي، مذكّرًا إيّاه بأن "أوّل عمل قمتُ به، مع عدد من الزملاء الوزراء، وقبل مرور 48 ساعة على نيل الحكومة الثقة، كان القيام بزيارة ميدانية إلى صور والخيام والنبطية"، رابطًا قرض البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار لإعادة الإعمار، بإقرار القانون المتعلّق به في مجلس النواب، معيدًا الكرة إلى ملعب الرئيس بري.
وعبارة برّي - وهو جزء من الدولة وبيده مفتاحها التشريعيّ النيابي- التي قال فيها إن الحكومة لا تسأل عن أهل الجنوب، يمكن ترميزها بالعبارة الشهيرة "وينيي الدولة"، لتعيدنا لأصل المشكلة: الولاء المصلحيّ لـ "حزب اللّه"، الذي عززه ضعف الدولة أمام الدويلة.
كي لا تبقى الدولة سجينة ضعفها
تلجأ سكارليت أوهارا لريد باتلر قبل زواجهما، خلال مدّة سجنه في الحرب، لتستدين منه مبلغًا تدفع به ضرائب متراكمة على أرضها "تارا"، خشية خسارتها، فيمتنع باتلر لأنه يعرف أن مجيئها له لم يكن حبًا به أو ولاء له، فتقول سكارليت جملتها الشهيرة "لن أجوع بعد اليوم" لتتزوّج بعدها زوج أختها الثري.
الدولة اللبنانية موجودة، لكنها "سجينة" الحروب والاحتلالات، وأكبر سجن كان يطوّقها منذ عقود، حكم الفساد عبر تحالف المافيا والميليشيا. في ثورة 17 تشرين 2019 تجلّت فرصة حقيقية لتحرير الدولة، كان أهل الجنوب في صلبها، فقمعوا وهدّدوا، وربّما لو نجحت ثورة الجنوب المقموعة، لكانت سقطت عبارة نصراللّه الشهيرة "عهد عون ما فيكن تسقطوه بالشارع".
مع العهد الجديد اليوم، هناك فرصة حقيقية ومفصلية لقيام دولة قوية، أرساها سقف خطاب قسم رئيس الجمهورية، العماد جوزاف عون، الذي أكّد "حق الدولة في احتكار حمل السلاح"، وتمكين "الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي" وأن "نعيد إعمار ما هدمه العدوان الإسرائيلي"، ودعّمها تنفيذيًا، البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام، الذي أطاح بثلاثية شعب جيش مقاومة، ثمّ عمل الحكومة على حصر السلاح وفق خطة الجيش، بالتوازي مع مساعي إعادة الإعمار، التي تبقى مشروطة بتسليم سلاح "حزب اللّه"، كفرصة أخيرة لبناء دولة قوية قادرة على حماية الجنوب وأهله، ليس بسلاح الجيش وحده، بل بإعادة لبنان على خارطة العلاقات الدولية.
عادت سكارليت لـ "تارا"، مزرعة القطن المنتجة، الجامعة بين "الوطن" و "السيادة" و "الثروة"، 3 مرات: بعد الحرب، وهي عودة نازحي الجنوب كل مرة بعد كل حرب، ومرة ثانية بهدف استعادة المال والقوّة، وهي عودة تشبه استثمار المغتربين في أرض الجنوب، وتبقى العودة الأبقى، هي عودتها الأخيرة في نهاية الفيلم، لتستعيد ذاتها والأمل بعبارتها الشهيرة "غدًا يوم آخر".
فبعد أن تخلّى عنها الجميع، لم يبق لها سوى الأرض. اليوم تخرج الدولة من سجنها شيئًا فشيئًا، لتعلن احتكار مسؤوليتها عن الجنوب. أمّا الولاء المصلحيّ لـ "حزب اللّه"، فسيزول مع الزمن، ويبقى الولاء مع الأرض، "تارا" أو أرض الجنوب أو ربّما الوطن، الذي إن لم يستطع أبناؤه بناء دولة المواطنة والمؤسّسات، التي تحتكر السلاح والحكم، فسيكون مصير لبنان هذه المرّة في مهبّ الريح، لا الجنوب اللبناني وحده.
فتات عياد - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|