عن بلد يتنفس الحرب ويختنق بالسلام
في لبنان تتكاثر الأحاديث عن عودة الحرب كأنها موسمٌ من مواسم البلاد. يُقال ذلك بلا استغراب. يُحكى عن الحرب كما يُحكى عن الشتاء الآتي، ببرودةٍ تشي بأنه في لبنان، لا تُقرع طبول الحرب، بل تُدندن في الذاكرة. فالحرب ليست حدثًا يزور هذا البلد من حينٍ إلى آخر؛ بل هي حالةٌ مستمرة ومتواصلة تعيش في لغته ونظرته إلى ذاته.
هذا الوطن الصغير الذي أنهكته الجغرافيا، لا يعرف الحرب كاستثناء؛ بل كعادةٍ قديمةٍ يصعب الإقلاع عنها. وكلما اقترب من السلام، شعر بالغربة؛ كأن الهدوء طارئ، وكأن الخراب هو الإيقاع الوحيد الذي يستطيع الرقص على نغمه. السعي إلى السلام صار خيانةً وغدر لوهم البطولة التي باتت تُقاس بمدى القدرة على تحمّل الخراب والتشرد والانكسار.
هناك من اللبنانيين من تعلّم أن يعيش في قلب الكآبة، وأن يجعل من الاكتئاب وطنًا داخليًا يسكنه كما يسكنه الحنين. يرى في الحرب ضمانةً للكرامة، وفي المعركة معنىً للوجود. لم تعد الحرب عنده مأساةً تُفرض من الخارج؛ بل طقس يُمارَس بوعيٍ ورضا، كأنها المرآة الوحيدة التي تتيح له رؤية ذاته. تحوّل الموت في نظره إلى تربيةٍ معلنة، وإلى درسٍ يوميّ في معنى التضحية والنجاة المستحيلة. هؤلاء لا يتخيلون وطنًا بلا هدير طائرات، ولا سياسةً بلا جبهات، ولا هويةً بلا محور. لقد صارت الحرب بالنسبة إليهم شكلاً من أشكال الانتماء الوجودي، ينهلون منها إحساسهم بالمعنى. حتى بات السلام، في وعيهم، تهديدًا لهويةٍ بُنيت على الخطر والبطولة والخسارة المستمرة.
وفي المقابل، هناك لبناني آخر، يعيش الحرب ككابوسٍ لا يستيقظ منه. يقيم في وطنه كما يقيم الجرح في الجسد، حاضرٌ لا يُشفى، وغائبٌ لا يُنسى. لم يعُد يؤمن بالخلاص الجماعي، فاختار سلامًا شخصيًا هشًّا، يحتمي فيه من الضجيج ومن خيبات الذاكرة. لكن الهروب من الحرب لا يعني السعي إلى السلام؛ بل عجزٌ عن إعادة تعريف الوطن خارج ثنائية الخوف والعنف. وهكذا يبقى لبنان معلّقًا بين من يمجّد الحرب ومن يتجاهلها، بين من يراها خلاصًا ومن يراها قدرًا، فلا أحد يسعى فعلاً إلى تجاوزها.
لماذا لا يتوافق اللبنانيون على السلام؟ ربما لأن السلام ليس اتفاقًا سياسيًا بقدر ما هو امتحانٌ وجودي، يهزّ الأسس التي قامت عليها الجماعة والذاكرة والهوية. فالسلام هنا لا يعني فقط إسكات البنادق؛ بل إسكات الأصوات الداخلية التي وجدت في الحرب معنىً للحياة، وفي الخوف مبررًا للتماسك، وفي العدو سببًا للبقاء.إنه صدمةٌ ثقافية تمسّ البنية العميقة للوعي الجمعي: فكيف يمكن لمجتمعٍ أن يتخلى عن تاريخه، إذا كان هذا التاريخ قد شيّد ذاته على الدم؟ السلام، في لبنان، يهدد الأسطورة المؤسسة: أسطورة البطولة التي قامت عليها شرعية الزعماء، وأساطير المقاومة التي صارت بديلاً عن الدولة، وأسطورة الاقتصاد الذي ازدهر على حافة الفوضى، مستفيدًا من الخطر الدائم كما لو كان موردًا من موارد الحياة. إنه يربك النظام الاجتماعي المبني على الخوف والتعبئة والذاكرة الانتقائية، حيث كل طائفةٍ تروي جراحها كدليلٍ على الطهارة، وكل زعيمٍ يبرر سطوته باسم الدفاع عن جماعته.
كيف يمكن للبناني أن يسعى إلى السلام، وهو يعيش في منظومةٍ تحتاج إلى الخطر كي تبرر وجودها؟ كيف يتصالح مع فكرة الهدوء، وقد نشأ في بيئةٍ ترى في القلق علامةً على الحياة، وفي الصخب ضمانةً للانتماء؟ لقد تحوّل السلام في المخيال اللبناني إلى ضعف، والهدوء إلى نسيان، والتنازل إلى خيانة. في مثل هذا المناخ، لا يولد السلام، لأن الحرب لم تَعُد نقيضه؛ بل ظله.
لبنان لا يتحرك في الزمن؛ بل يدور فيه. كل أزمة تُستعاد، وكل زعيم يُبعث من رماده، وكل خطابٍ يُعاد إنتاجه بلهجةٍ جديدة. منذ الحرب الأهلية وحتى اليوم، كأن البلاد تُعيد كتابة المشهد نفسه في فصلٍ لا ينتهي. السلام، في جوهره، ليس غياب الحرب؛ بل رفضٌ عميق لمنطقه. إنه قطيعةٌ مع لذة الخطاب البطولي، ومع إدمان المظلومية. هو اعتراف بأن القوة تُقاس بقدرة الإنسان على خلق معنىً للحياة وسط الخراب، وبأن الحرب ليست سوى هزيمة موروثة، تتناسل في بيوت فقدت عنوانها.
مروان حرب - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|