عربي ودولي

أسبرطة الجديدة: هل يكتب نتنياهو نبوءة زوال الكيان؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

حين شبّه نتنياهو كيانه بـ"أسبرطة الجديدة"، لم يكن يستدعي من التاريخ إلا مرآة لأزمة حاضره. "إسرائيل" التي طالما قدّمت نفسها للعالم بوصفها "أثينا الشرق الأوسط" – منفتحة، مبتكرة، ديمقراطية – تعلن اليوم على لسان رئيس وزرائها أنها لم تعد تحتمل قناع الانفتاح، وأنها تتجه صوب عسكرةٍ شاملة، تعيش فيها بالسيف لا بالكلمة، وبالانغلاق لا بالشرعية.

لكن الاستعارة التي أرادها نتنياهو عنوانًا للقوة، تحمل في جوهرها نبوءة الفناء؛ فأسبرطة التاريخ لم تنجُ رغم صرامتها العسكرية، بينما بقي إرث أثينا الثقافي والسياسي ممتدًا عبر القرون. هكذا، يكشف الخطاب عن تحوّل خطير: "إسرائيل" تختار أن تضع نفسها في خانة الكيانات التي لا تنتج إلا الحرب، فتفقد مع كل يوم ما تبقى لها من شرعية في الداخل والخارج.

بين القوة العابرة والإرث الباقي
أسبرطة جسّدت عبر التاريخ نموذج "المجتمع المحارب": الانضباط العسكري، الاقتصاد المغلق، والحياة الموجّهة نحو الحرب. أما أثينا فمثّلت الوجه الآخر: الفلسفة، المسرح، الديمقراطية، والتجارة. حين سقطت أسبرطة، اندثر إرثها مع جدرانها؛ أما أثينا، فقد تركت للعالم تراثًا لا يزال يؤسس للفكر والسياسة إلى اليوم.

باستدعائه أسبرطة، يعلن نتنياهو أن "إسرائيل" لم تعد تُعنى بصورة "واحة ديمقراطية" في الصحراء العربية، بل تختار أن تكون ثكنة عسكرية محاصرة. والمفارقة أن هذا الاختيار ليس سوى اعتراف ضمني بأن أدوات البقاء القديمة – الشرعية الدولية، الدعم الغربي، صورة الابتكار – قد تآكلت، وأن "إسرائيل" تستبدلها بخيار محفوف بالمصير ذاته الذي لاقته أسبرطة.

عزلة بلا غطاء.. وصعود الرأي العام
خطاب نتنياهو اعتراف علني بأن "إسرائيل" تدخل مرحلة العزلة الاستراتيجية. أوروبا التي شكّلت لعقود قاعدة الدعم الأخلاقي والسياسي لـ"إسرائيل" تغيّر وجهها؛ موجات الهجرة جعلت الرأي العام أكثر قربًا من قضايا العرب والمسلمين، وأشد نقدًا لجرائم غزة. الحكومات الغربية لم تعد قادرة على تقديم شيك على بياض لـ"تل أبيب".

إلى جانب ذلك، يقرّ نتنياهو بأن "إسرائيل" تواجه حصارًا إعلاميًا ورقميًا غير مسبوق. منصات التواصل ووسائل الإعلام العابرة للحدود نزعت منها القدرة على احتكار السردية. لم تعد "إسرائيل الضحية" كما صوّرت نفسها لعقود، بل صارت في وعي الشعوب "قوة محتلة" تقصف المدنيين وتدمر المدن. هذا البعد الإعلامي هو الأخطر؛ إذ يلتقي مع تحوّل عالمي أوسع: تراجع الهيمنة الغربية وصعود قوى أخرى – من الصين إلى روسيا والبريكس – تجعل "إسرائيل" أقل ثقة بموقعها الدولي.

من الديمقراطية إلى "المجتمع المحارب"
في الداخل، يعيد نتنياهو صياغة المعادلة: "الحياة أهم من القانون". عبارة تبدو للوهلة الأولى بديهية، لكنها في السياسة انقلاب صريح على جوهر الدولة الحديثة: القانون أولًا ثم البقاء. هنا يصبح الأمن ذريعة لتقويض القضاء، وإخضاع المؤسسات، وإعادة تعريف الهوية السياسية لـ"إسرائيل".

لكن "المجتمع المحارب" الذي يحلم به نتنياهو يصطدم بمعضلة ديموغرافية صارخة: التيار الحريدي المتنامي لا يشارك في الخدمة العسكرية، والمجتمع الإسرائيلي منقسم بين تيارات متشددة وليبرالية، بين شرق وغرب، وبين قوميات متنافرة. أسبرطة التاريخية كانت مجتمعًا متجانسًا كله جنود؛ أما "إسرائيل" فهي خليط هش، محكوم بالانقسامات التي لا تسمح بتحويله إلى "أسبرطة عصرية".

من وادي السيليكون إلى معسكر السلاح
أخطر انعكاسات خطاب نتنياهو يتمثل في التحوّل نحو اقتصاد الحرب. "إسرائيل" التي تباهت لعقود بأنها "وادي السيليكون" في الشرق الأوسط، تستعد لتوجيه مواردها الأساسية نحو توسيع الصناعات العسكرية وتقليص الاعتماد على الخارج.

هذا الخيار قد يخلق وظائف ويدعم بعض القطاعات الدفاعية، لكنه يقوّض تنوع الاقتصاد ويضعف قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية. الدول التي تبني اقتصادها على السلاح تعيش دائمًا في دائرة مغلقة: إنتاج لاستهلاك ذاتي، مكاسب قصيرة الأمد، وانهيار طويل المدى. هنا يتجلى خطر الانزلاق: "إسرائيل" لا تنتقل فقط من صورة أثينا إلى أسبرطة، بل من اقتصاد المعرفة إلى اقتصاد الموت.

حين يصبح البقاء غاية بحدّ ذاته
لغة "الخطر الوجودي" التي يكررها نتنياهو تكشف عن نزعة لتأبيد الصراع. ليس هناك حلول سياسية في الأفق، بل خطاب يجعل من الحرب قدرًا، ومن السيف هوية.

لكن التاريخ يذكّر: أسبرطة انهارت لأنها لم تنتج سوى الحرب، ولم تترك إرثًا يتجاوز جدرانها. "إسرائيل" اليوم تُعيد إنتاج هذا النموذج؛ كيان يعيش فوق القانون، محاط بمجتمعات ترى فيه مشروعًا استيطانيًا إمبرياليًا لا مكان له في المنطقة.

بهذا، يتحوّل خطاب نتنياهو إلى مغامرة وجودية: قد يربح معركته في كسب تأييد قاعدته اليمينية، لكنه يخسر الشرعية الأخلاقية والسياسية في العالم، ويعجّل بانكشاف "إسرائيل" ككيانٍ يعيش على العنف وحده.

حين يختار السيف أن يكتب النهاية
في لحظة مكاشفة غير مقصودة، وضع نتنياهو "إسرائيل" أمام مرآة التاريخ، فاختار أن يراها "أسبرطة الجديدة"، متوهّمًا أن السيف وحده يصنع البقاء.

لكنه تجاهل ما أدركه مفكرون كبار: أن الكيان الصهيوني بطبيعته غير قابل للبقاء. عبد الوهاب المسيري وصفه بـ"الكيان الوظيفي" الذي أُقيم لخدمة مصالح القوى الاستعمارية، ومتى فقد وظيفته سيتداعى من داخله. وجمال حمدان رآه "جرثومة غريبة" مزروعة في جسد المنطقة، قد تُحدث جرحًا عميقًا، لكنها لا تستطيع أن تتحول إلى جزء عضوي من المحيط.

إن استعارة أسبرطة، التي أرادها نتنياهو رمزًا للقوة، ليست سوى اعتراف بأن "إسرائيل" تعيش في عزلة خانقة، وأنها كيان لا يستطيع التكيّف مع بيئته ولا العيش إلا بالسيف. لكن المجتمعات التي تُقام على السلاح وحده تحمل في داخلها بذور فنائها، تمامًا كما انتهت أسبرطة قبل ألفي عام.

يبقى السؤال: هل ستُسجَّل في صفحات التاريخ نهاية "إسرائيل" باعتبارها "أسبرطة القرن الحادي والعشرين"، كيانًا عسكريًا عاش على القهر والدمار حتى انهار، أم أن لحظة التراجع والتفكك قد بدأت بالفعل من الداخل، كما تنبأ بها العقلاء منذ زمن؟

إلهامي المليجي - الميادين

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا