الصحافة

إيران: من السّيطرة إلى الحفاظ على النّفوذ

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

هل يمكن لإيران أن تحافظ على نفوذها في لبنان من دون هيمنة مباشرة؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه مع سقوط الأسد وتراجع قدرة طهران على تمويل حروبها في الإقليم، مقابل إصرارها على حماية “الجوهرة الأبرز” في مشروعها: “الحزب”. فهل تنجح المقاربة البراغماتيّة الجديدة لإيران، أم يفتح لبنان فصلاً جديداً من الصراع على الهويّة والسيادة؟

في خضمّ التحوّلات المتسارعة في جغرافيا الشرق الأوسط السياسية، تجد إيران نفسها أمام واقع جديد يفرض إعادة صياغة مقاربتها الإقليمية. فعلى مدى عقود، سعت السياسة الخارجية لطهران إلى التحكّم المباشر عبر الوكلاء، من خلال الهيمنة على المشهد السياسي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. غير أنّ الانتكاسات الكبرى، وعلى رأسها الانهيار الكامل لنظام بشّار الأسد في سوريا في كانون الأوّل 2024 والضربات الإسرائيلية التي أضعفت القدرات العسكرية لـ”الحزب”، دفعت إلى تعديل هذه الاستراتيجية.

يركّز هذا التحوّل، الذي تسارع مع بداية عام 2025، على ترسيخ النفوذ بدلاً من الهيمنة الصريحة، وفيها أصبح لبنان حجر الأساس في محور النفوذ الذي تسمّيه إيران “مقاومة” وتسعى إلى الحفاظ عليه. ومع دخول سوريا مرحلة انتقاليّة تحت حكومة مؤقّتة تسعى إلى تحقيق الاستقرار وتثبيت النظام الجديد،  تتّجه بوصلة إيران نحو حماية أبرز أصولها الإقليمية: “الحزب”، وهذا ما يفسّر قرار “الحزب” رفض تسليم سلاحه للدولة.

قطع الجسر الحيويّ

كانت الخطّة التقليدية لإيران تعتمد على التدخّل المباشر والثقيل: ضخّ المليارات في سوريا دعماً للأسد، وتسليح الميليشيات في العراق، وتعزيز قوّة الحوثيين في اليمن. وفي لبنان، لعب “الحزب” دور الذراع العسكرية والسياسية في آن معاً، مؤثّراً في تشكيل الحكومات ورادعاً لأعدائه.

لكنّ التطوّرات الميدانية كشفت حدود هذه المقاربة. فقد مكّنت التقنيّات المتقدّمة في المراقبة والضربات الدقيقة تل أبيب من إلحاق خسائر كبيرة بـ”الحزب” منذ عام 2023، فيما أضعفت الأزمات الاقتصادية والعقوبات المتصاعدة قدرة طهران على تمويل جبهات متعدّدة، خصوصاً بعد حرب الاثني عشر يوماً التي أظهرت ضعف القدرات العسكرية الإيرانية في مواجهة إسرائيل والولايات المتّحدة.

أمّا سقوط الأسد فقد قطع الجسر البرّي الحيويّ لإمدادات إيران وأبرزَ مخاطر التوسّع المفرط. ولا يزال يمثّل لبنان، بحدوده المفتوحة وحضور “الحزب” المتجذّر، المركز المثاليّ للاستراتيجية الإيرانية، إذ يوفّر عمقاً استراتيجيّاً في مواجهة إسرائيل مع تقليل المخاطر المباشرة على إيران.

ينظر القادة الإيرانيون إلى “الحزب” باعتباره الجوهرة الأبرز في مشروعهم الإقليمي. فقد وصف أحد المسؤولين أخيراً “الحزب” بأنّه “أصل استراتيجيّ” لإيران في لبنان، ليس فقط بفضل قدراته العسكرية، بل أيضاً بسبب شبكاته الاجتماعية والخدميّة.

ما يتجاوز الصواريخ والمقاتلين هو النسيج الاجتماعي الذي بناه “الحزب” في المناطق الشيعية، حيث وفّر المدارس والمستشفيات وخدمات الكهرباء والمياه وحلّ مكان الدولة. هذه الخدمات، المموّلة إلى حدّ كبير من طهران، عزّزت الولاء الشعبي وجعلت “الحزب” جزءاً لا يتجزّأ من الحياة اليوميّة، وبالتالي تعاظم النفوذ الإيراني.

تزايدت الدعوات إلى نزع سلاح “الحزب”، في إطار تنفيذ القرارات الدولية وضمان استقرار لبنان الهشّ. وقد حدّدت الحكومة اللبنانية موعداً مبدئيّاً لنهاية عام 2025 لبسط سلطتها وحصر السلاح بيد الدولة ونزع سلاح “الحزب”.
لكنّ “الحزب” الذي يتماهى مع الاستراتيجية الإيرانية يتمسّك بموقفه الرافض، مؤكّداً أنّ سلاحه يشكّل درعاً في مواجهة التهديدات الإسرائيلية وركيزة أساسيّة في الحفاظ على التوازن الطائفيّ. أمّا إيران فتعتبر أيّ تنازل في هذا الملفّ خضوعاً لإملاءات خارجية وخسارة كبيرة لطهران بعد عقود من الدعم لحلفائها في لبنان.

توازن بين الطّموحات والواقع

تدرك دول الخليج والولايات المتّحدة أنّ مواجهة نفوذ إيران تتطلّب أدوات مختلفة. فبدلاً من المقاربات العسكرية البحتة، هناك تلميح إلى وجود مشاريع اقتصادية طموحة تقوم على الاستثمار في البنية التحتية والسياحة والصناعة، مع تركيز خاصّ على المناطق الجنوبية التي تعدّ معاقل نفوذ “الحزب”، وذلك لسحب النفوذ الإيراني بعد تسليم السلاح. وخلال زيارته لبيروت في آب 2025، شدّد المبعوث الأميركي توم بارّاك على ضرورة توفير بدائل اقتصادية واقعية لمقاتلي “الحزب” مع الحديث عن نزع السلاح.

لكنّ هذه المبادرات لن تمرّ من دون مقاومة. فقد شهدت مدينتا صور والخيام تظاهرات حاشدة رفع المشاركون فيها أعلام “الحزب” وردّدوا شعارات مناهضة للتدخّل الأميركي، فألغى بارّاك بعض محطّات جولته. وهناك قناعة ثابتة لدى الدول المعنيّة بلبنان بأنّ جوهر المعركة يكمن في ولاء المجتمع الشيعي، الذي بُني على مدى عقود من الاستثمارات الإيرانيّة وخطاب المقاومة. ولكي تنجح المبادرات الخليجية، فهي مطالَبة بتقديم تحسينات ملموسة وسريعة في فرص العمل والخدمات والبنى التحتية. دون ذلك، ستبقى رواية طهران، التي تروّج لتحالف ثابت ومقاومة دائمة، هي السائدة.

تعكس الاستراتيجية الإيرانية الجديدة نهجاً براغماتيّاً يوازن بين الطموحات والواقع. فالأزمات الاقتصادية الداخلية، إلى جانب التحوّلات الإقليمية، دفعت طهران إلى تركيز نفوذها في لبنان لكونه أداة أقلّ كلفة وأكثر فاعليّة للحفاظ على موقعها التفاوضيّ في الإقليم.

أمّا دول الخليج والغرب فنجاح مساعيهم يتوقّف على توازن دقيق بين الحوافز الاقتصادية والضغط الدبلوماسي، مع تجنّب أيّ تصعيد عسكري يعزّز رواية “الحزب” ويزيد من شعبيّته.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا