من الحرب الى عصر الانهيارات... القلق يحاصر اللبنانيين
في بلد غارق بالانهيارات الاقتصادية والسياسية والأمنية، يعيش اللبنانيون تحت وطأة قلق دائم من المستقبل، لم يعد هذا القلق شعورا عابرا يمكن تجاوزه، بل تحول إلى حالة بنيوية تسيطرعلى تفاصيل حياتهم اليومية، فمع الانهيار الاقتصادي، الانسداد السياسي، وتدهور الخدمات الأساسية، بات المستقبل بالنسبة لكثيرين مساحة ضبابية محكومة بالخوف واللايقين، قلق لا يقتصر على من هم في الداخل فحسب، بل يلاحق حتى أولئك الذين غادروا البلاد بحثا عن الاستقرار.
لم ينشأ هذا القلق فجأة، بل له جذوره العميقة في التجربة اللبنانية، فقد بدأ يتسلل إلى حياة اللبنانيين منذ اندلاع الحرب المشؤومة عام 1975، حين أصبح الأمن الشخصي والمستقبل المعيشي غير مضمونين. تروي السيدة علا، التي عاشت في بيروت خلال سنوات الحرب، أن "كل يوم كان يحمل خوفا جديدا، لا تعرف إذا كانت ستستيقظ على صوت انفجار أم على صمت مشبوه يسبق القصف". بدوره أشار سامر إلى أن كل شيء كان مؤجلا حتى الزواج والعمل "كنا نخطط للحياة بشكل مؤقت لأن المستقبل كان مجهولا، ولا شيء يمكن الاعتماد عليه، وكانت الأولوية هي البقاء على قيد الحياة".
تعكس هذه الشهادات كيف ترسخ القلق في النفس اللبنانية، ليس كحالة عابرة، بل كجزء من تجربة جماعية تركت أثرها النفسي الطويل، فرغم انتهاء الحرب المشؤومة، لم يختف القلق فالأزمات الاقتصادية المتكررة، والانهيارات المالية، وانقطاع الخدمات الأساسية، إضافة إلى الحروب المتتالية على لبنان جعلت الشعور بعدم الاستقرار يستمر، فبات القلق جزءا من الحياة اليومية يتسرب إلى أدق تفاصيلها، فالشاب الجامعي يتساءل إن كان لشهادته أي قيمة في سوق عمل منهار، فيما يعيش رب الأسرة حالة استنزاف دائمة وهو يحاول تأمين حاجات أولاده وسط تضخم خانق وانقطاع متكرر للخدمات الأساسية، أما المريض، فيخشى أن يحرم من دوائه مع استمرار أزمة الاستيراد والتهريب والغش وغياب السياسات الصحية الفعالة، بينما الموظف يترقب يوميا انهيارا جديدا في سعر العملة يلتهم ما تبقى من راتبه.
قلق اللبنانيين يزداد يوما بعد يوم، بسبب الظروف الصعبة التي مرت وتمر بها البلاد، وفي كثير من الأحيان يتجاهل الناس هذه المشكلة ظنا منهم انه أمر عادي، فيكملون حياتهم بالرغم من كل الظروف الضاغطة عليهم، لكن علماء النفس يؤكدون أن هذا القلق المزمن ينعكس تأثيره على الجسم والعقل معا، فمن الناحية النفسية، يظهر القلق في العصبية المستمرة، التفكير المفرط في المستقبل، فقدان الحافز، صعوبة التركيز، الذعر، شعور بالوحدة واضطرابات النوم مثل الأرق أو الكوابيس المتكررة، أما على الصعيد الجسدي، فقد يرافقه خفقان القلب، ضيق التنفس، التعرق، التوتر العضلي، الصداع، وآلام المعدة أو الجهاز الهضمي.
لكن تأثير القلق لا يقف عند الفرد، بل يمتد إلى النسيج الاجتماعي، فقد يؤدي إلى العزلة وصعوبة التواصل، وانعدام الثقة، ويكرس ثقافة "العيش كل يوم بيومه" بدل بناء مستقبل مستدام وكأن التخطيط للمستقبل أصبح رفاهية، ما يزيد من هشاشة المجتمع ككل.
قصص الناس اليومية خير دليل على ذلك، فرهام موظفة في شركة خاصة وهي في العقد الثالث من العمر، تقول: "كنت أحلم بشراء شقة صغيرة مع زوجي، لكننا اليوم لا نعرف إذا كان راتبنا يكفي حتى آخر الشهر"مضيفة "فكرة تكوين عائلة صارت مخيفة، من سيضمن مستقبل أولادنا في بلد لا يؤمن حتى الكهرباء والدواء؟"
ويروي فراس وهو أب لثلاثة أولاد في العقد الرابع من العمر، أن القلق يلازمه مع كل ارتفاع جديد في الأسعار "أعمل ليل نهار، لكنني لا أستطيع مجاراة الغلاء، أخاف أن يأتي يوم لا أستطيع فيه إطعام أولادي" مبديا خوفه عليهم من الغربة إن هاجروا خارج البلاد "فالمستقبل مسدود من كل الجهات" بحسب تعبيره.
أمام هذا الواقع، يبرز سؤال أساسي: كيف يمكن مواجهة القلق؟ مصدر طبي أكد أن "علاج القلق يتركز بين خيارين أساسيين: العلاج الدوائي الذي يخفف من الأعراض عبر أدوية مهدئة أو مضادة للاكتئاب تنظم عمل الناقلات العصبية، والعلاج النفسي الذي يقوم على التحدث مع مختصين وتعلم استراتيجيات التحكم بالأفكار السلبية ومواجهة الضغوط، وغالبًا ما يحقق الدمج بين الطريقتين أفضل النتائج، مع ضرورة تحديد الخطة العلاجية الأنسب لكل مريض بحسب حالته الفردية."
وبحسب دراسة أعدتها جامعة القديس يوسف عام 2024، فإن أكثر من 65% من الشباب اللبنانيين يعانون من مستويات عالية من القلق الوجودي المرتبط بانعدام الأمان الاقتصادي والسياسي، كما أشار تقرير البنك الدولي (2023) إلى أنّ 80% من الأسر اللبنانية تعيش تحت خط الفقر المتعدد الأبعاد، ما يضاعف المخاوف المرتبطة بالقدرة على تأمين أساسيات الحياة اليومية.
تراكم الأزمات جعل القلق يتحول إلى روتين نفسي ثقيل، فالكثيرون أصبحوا يترددون في اتخاذ قرارات حياتية كبرى مثل الزواج، الإنجاب، أو حتى الاستثمار البسيط، إذ يفضل الناس إنفاق أموالهم في الحاضر بدل ادخارها لمستقبل غامض، فيما يختار آخرون الهجرة باعتبارها الخلاص الفردي الوحيد المتاح، تاركين خلفهم بلدا يزداد فراغا من شبابه وكفاءاته، ووفق تقديرات البنك الدولي هناك أكثر من 200 ألف لبناني هاجروا بين 2019 و 2024.
لكن الهجرة نفسها لا تطفئ القلق، بل تعيد إنتاجه بصورة مختلفة، فاللبناني المقيم في الخارج، رغم تمتعه بشيء من الاستقرار المادي، يبقى محاصرا بقلق مضاعف، يتابع الأخبار اليومية بخوف، يعيش صراع الانتماء، ويشعر بعبء دائم تجاه مساعدة من بقوا في الداخل عبر التحويلات المالية أو الدعم المعنوي، القلق هنا يمتد ليصبح قلق هوية هل يعود يوماً إلى بلد بات غريبا عنه، أم يستسلم لاندماج كامل في مجتمع آخر؟
هذا ما تعكسه شهادات المغتربين، سارة مهندسة مقيمة في كندا منذ أربع سنوات تبلغ من العمر 27 عاما تؤكد أن " المستقبل هنا واضح، لكن انتمائي هناك يضعني في قلق دائم، كل يوم أفتح الأخبار بخوف: انفجار، حرب، أزمة جديدة" مضيفة رغم استقراري هنا لكنني لا أنام مطمئنة، فقلبي مع أهلي في لبنان"
أما جاد ابن 37 عاما هاجر إلى احدى دول الخليج، فيؤكد أنه في كل يوم يسأل نفسه "هل أعود إلى لبنان يوما؟ هل سيكون بلدا قابلا للعيش لأولادي؟ أم أستسلم لفكرة أن حياتي كلها ستكون في الغربة؟ واصفا قلقه بـ"قلق هوية"، بينما تتجنب هبة الحديث عن حياتها اليومية في سويسرا عند اتصالها بأهلها في لبنان مشيرة إلى أن "حياتنا تسير هنا بشكل طبيعي، بينما يعاني أهلي من غياب الأساسيات كالكهرباء والماء والإنترنت".
وصنف علماء النفس القلق بعدة أنواع وفقا لأسبابه وطبيعته وشدته، فهناك القلق العام الذي يتمثل في شعور مستمر ومفرط تجاه أمور الحياة اليومية مثل العمل أو الصحة أو الأسرة، ويصاحبه توتر عضلي وإرهاق وصعوبة في النوم، والقلق الحاد أو نوبات الهلع الذي يظهر فجأة مع أعراض جسدية قوية كخفقان القلب وضيق التنفس والتعرق، والقلق الاجتماعي المرتبط بالخوف من المواقف الاجتماعية أو الظهور أمام الآخرين، والرهاب أو الفوبيا وهو خوف شديد وغير منطقي من شيء محدد كالمرتفعات أو الأماكن المغلقة، والقلق المرتبط بالصدمة الذي يظهر بعد تجربة صادمة مثل الحوادث أو الحروب وتصاحبه ذكريات مؤلمة وكوابيس، والقلق الناتج من الوسواس القهري الذي يتجسد بأفكار متكررة وسلوكيات قهرية لتخفيف التوتر مثل غسل اليدين، وأخيرا القلق النفسي العضوي أو المرضي المرتبط بحالة صحية جسدية أو أدوية، حيث يكون القلق عرضا لحالة طبية وليس اضطرابا نفسيا مستقلا.
ورغم سوداوية المشهد، يبرز جانب مقاوم لدى اللبنانيين، فبعضهم يحولونه إلى قوة دافعة للتكيف مع الواقع الصعب، والبحث عن بدائل وحلول مبتكرة، كإطلاق مشاريع صغيرة، أو اعتماد التعليم الرقمي والعمل عن بعد، أو الانخراط في المبادرات المجتمعية، فمثلا لينا ابنة 26 عاما خريجة جامعية لم تجد عملا في تخصصها، فأطلقت مشروعا صغيرا عبر الإنترنت لبيع منتجات يدوية، مؤكدة أن القلق لا يفارقها فالمستقبل غامض لكنها لا تريد الاستسلام ، مضيفة " أحاول أن استعمل القلق كدافع لأصنع فرصتي بنفسي" وحال لينا يشبه عددا من حال الشباب اللبناني الذي أبى أن يستسلم، فهذه المحاولات الفردية تؤكد أن القلق ليس بالضرورة استسلاما، بل قد يتحول إلى دافع لإيجاد حلول ولو فردية لمواجهة الواقع، لكنها لا تلغي عمق الأزمة.
في المحصلة، القلق من المستقبل في لبنان ليس مجرد شعور عابر، بل هو بنية نفسية واجتماعية تحكم حياة الأفراد وتؤثر في خياراتهم اليومية، سواء كانوا في الداخل يصارعون واقع الانهيار، أو في الخارج يعيشون بين الاستقرار والحنين، وبين هذا وذاك، يظل المستقبل في نظر اللبنانيين مساحة ضبابية تتأرجح بين الخوف والرجاء.
ربى ابو فاضل - "الديار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|