بس إنت… إنت وبس
في السياسة، زياد مُختلَفٌ عليه. ورغم ذلك دخل زياد في المزاج العام للبنانيين. ومن المزاج إلى الوجدان. كان فينا شيء منه قبل أن يطلّ علينا، ويرتقي فوق المألوف. روعة الحياة في تصارع الأفكار، في أن تكون أنت وفي داخلك آخر أو آخرون لم يستأذنوك. هذه حاله معنا وحالنا معه.
في الفن زياد رائع زماننا. قبل عقدين تقريبًا، بدا زياد "يساريًا منزويًا". اليميني واليساري، المؤمن والملحد، الغني والفقير، كلهم لهم حصة في زياد، لأنه لبّى رغباتهم. بدت المحبة، على تناقض المُحبين وتنوّع روائعه الفنية، فعل "سرقة بيضاء". كنا نسرقه أمام عينيه، وننتقي ما نستسيغ. بأشواط تفوّق زياد على علامة العصر الفارقة تشارلي شابلن، لقد اخترقنا بالضحك مضافًا إليه الموسيقى. لا أعرف نجمًا تمكَّن بهذا القدر من أصعب فنَّين في التاريخ. لقد بنى صرحًا يفاخر به هذا الوطن على العالم. من دماره الذاتي بنى هذا الصرح، وهيمن على جيل. هناك جيل اسمه "جيل زياد".
برحيله المُبكر، انقفل "باب الدعوة". أنا من ذلك الجيل رغم المسافة السياسية مع صاحبه. مع الأيام، ستتوسع دائرة معجبيه ومحبيه لكنهم دخلاء لطيفون في عُرفي. الدخلاء الذين لم أقبلهم، هم المترفون. لا أدري لماذا رفضتهم.
زياد للفقراء وللطبقة الوسطى، والساحات والسهرات لنا، والباقون عليهم أن يتخففوا من ثرائهم ليكتسبوا العضوية. شيء من اعتباطية زياد كانت تتحكم بي في هذا الشأن. تساءلت كثيرًا، لماذا لم يرحم نفسه، ويعتني أكثر بصحته وبموهبته؟ المبدعون كُلّيون، مشدودون إلى الغوص نحو الأعماق، غير آبهين بأن غوصهم غرقٌ، وأن كمية الأوكسيجين محدودة. ناهض زياد دولة "الأبوين رحباني" ووصمها بالخيالية، ومن حيث ناهضها، أعلا شأنها. "والضد يظهر حسنه الضد" على قول شاعر مغمور اسمه دوقلة المنبجي، سبق هيغل وماركس إلى منهج الجدلية (الديالكتيك).
وهذا الديالكتيك صحيح إذا لم يتوقف عند محطة من محطات الحراك الإنساني. لبنان صنيعة "دولتي" الأبوين والابن، والدليل الصوت الرابط بين الدولتين والزمان، صوت فيروز. وما لا يُعطى حقه صوت زياد، إذا تكلم. نبرة صوته الطبيعي، دفق من المشاعر. زياد شريك أمه في موهبة الصوت، ونقيضها في مواجهة الناس.
هي تخاف من الإطلالات، وهو يخاف من عزلته. ماثل للعيان أن كآبة الأم والابن كانا ليبيعانها بأي ثمن لو كان سبيلًا لطرد تلك الكآبة. نؤمن بوطن واحد وبعائلة رحبانية رسولية ونترجى قيامة ما مات على صليب الأزمات. عائلة سكنت الكنائس والمساجد وساحات القرية والشوارع والبارات ومستشفى المجانين، وأقنعتنا أننا كلنا في هذه الأماكن. يقال ولَّت التجربة اللبنانية، وانتهى دور لبنان الجامعة والمستشفى والمصرف. كل ذلك يستعاد، وبين بيارق العودة بيرق زياد سيكون عاليًا. لقد نكّس زياد جسده وما عدا ذلك، جمالياته ستهيمن، "صباح ومسا" وآخر الكلمات الأخيرة: "بس إنتَ… إنتَ وبس".
أمجد اسكندر -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|