الصحافة

الدروز والكرامات المستباحة: السويداء في مواجهة "دولة الشرع"

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا


"وأن كأس الحنظل في العِز أشهى من ماء الحياة مع الذل، وأن الإيمان يُشحَن بالصبر، ويُحفَظ بالعَدل، ويُعَزّز باليَقين، ويُقوّى بالجِهاد. عودوا إلى تاريخكم الحافل بالبطولات"، من وصية سلطان باشا الأطرش.

بهذه الكلمات التي تفيض كبرياءً وعنفوانًا، رسم سلطان باشا الأطرش ملامح الكرامة التي لا يُساوَم عليها، والهوية التي لا تُقاس إلا بالمواقف. إنها كلمات يُرددها اليوم أهل جبل العرب، في القرى المكلومة من دمى الموت والتنكيل، وتَنطُقها عيون المشايخ والشباب الذين قرروا أن يواجهوا "دولة" لا تُفَرّق بين الخَصم والمواطن، وبين الطائفة والسلاح.

أدى الموحدون الدروز، وهم طائفة إسلامية توحيدية تستوطن المشرق العربي منذ القرن العاشر الميلادي، أدوارًا محورية في تاريخ هذه المنطقة، وساهموا في نشوء كياناتها السياسية، لا سيّما في لبنان وسوريا، وإسرائيل. ومَن يَعرف تاريخ الدروز يُدرك أن ركيزة بقائهم ليست فقط عقيدتهم، بل الدور الحاسم الذي يُنَاط بقيادتهم السياسية والدينية لجهة الحفاظ على "الإخوان"، وهو مفهوم يشكّل أحد أعمدة الهوية الاجتماعية والدينية الدرزية، ويُوَحِّدُ صفوف أبناء الطائفة إزاءَ أي خطر وجودي، أينما حَضَروا.

لقد شكّل جبل العرب منذ مطلع القرن العشرين معقلًا سياسيًا وعسكريًا للطائفة، ومركزًا لثوراتها ضد الاستعمار، لعلّ أبرزها الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش. ومنذ ذلك الحين، لم تكن العلاقة بين دروز سوريا والسلطة المركزية علاقة تَبَعية، بل علاقة تفاوض وتوازن هشّ، غالبًا ما تنفجر وتتفكك عند محاولة كسر إرادتهم أو تطويعهم.

ما يحدث اليوم في محافظة السويداء، موطن دروز سوريا، من اشتباكات بين أبناء الجبل وقوات نظام الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، وما رافقها من تجاوزات وانتهاكات مُروعة، هو امتداد لمسارٍ تصادمي يتصاعد منذ فترة، ويكشف عن تحديات ولربما عن الوجه الحقيقي للدولة السورية الجديدة.

إن الاعتداءات التي طالت كرامات الدروز وعُقلائهم لم تقتصر على القتل والتدمير، بل شملت ممارسات مُهينة من قبل مقاتلين موالين للشرع، مثل حَلق شوارب رجال الدين، والعَبث بعمائمهم، وانتهاك خلواتهم الدينية. هذه الأفعال لا تُعد فقط إهانة شخصية، بل إهانة وجودية تهدد ركائز العقيدة والمجتمع الدرزي ككل، وهي بالنسبة لأبناء الطائفة أكثر فظاعة من القتل.

يَعتمد الشرع في تكتيكاته على مزيج من التَذرّع بالفوضى المحلية، وتضخيم خطر العصابات والمُهَربين، ثم التوسّل بخطاب "استعادة هيبة الدولة" الذي سرعان ما ينقلب إلى قمع عشوائي، لا يفرّق بين شيخ وطفل، ولا بين مُسََلح ومدني.

هذه الأحداث ليست معزولة، بل هي تتِمة لمواجهة أوسع بين دروز الجبل ونظام الشرع الذي يسعى لبَسطِ سلطته على منطقة عُرفت دومًا بتمرّدها ورفضها للهيمنة. أما النظام، الذي استفاد من الدعم الأميركي والخليجي والإسرائيلي الضمني، فرأى في انقسام الصف الدرزي فرصة سانحة لاختراق الجبل وإخضاعه، لا سيما في ظلّ رفضه تسليم سلاحه بدون ضمانات دستورية واضحة تحفظ حَيثية الدروز وموقعهم في الدولة الجديدة.

في خضم هذا التصعيد، برز انقسام سياسي غير مسبوق في الصف الدرزي. إذ عبّر الزعيم اللبناني وليد جنبلاط عن دعمه للنظام الجديد، وأثنى على كلامه شيخا عقل السويداء، الشيخ يوسف الجربوع والشيخ حمود الحناوي. في المقابل، وقف الشيخ حكمت الهجري، شيخ العقل الثالث، موقفًا معارضًا، رافضًا الاستعجال في تسليم السلاح ودمج الميليشيات الدرزية في الجيش السوري الجديد، مُحذّرًا من تكرار تجربة "جبهة النصرة" بصيغة رسمية. الهجري، وبدعم من المرجع الروحي للدروز في إسرائيل الشيخ موفق طريف، أطلق صوت الحذر، فكان الخط المعارض الاول للجبل وأهله.

وإذا كان دعم بعض الزعامات الدرزية لنظام الشرع نابعًا من اعتقادهم بأن الرهان على الدولة هو السبيل الوحيد لحماية الجبل، فإن المُعترضين، أمثال الهجري وطريف، رأوا في الاستعجال نوعًا من التسليم المجاني لمصيرٍ مجهول لا يحمل في طياته أي ضمانات. فالدروز، وبحسب مفهومهم، لا يعادون الدولة، لكنهم يرفضون الذوبان في مشروع لا يعترف بتعدديتهم.

استغل الشرع، مدفوعًا بوهم الحسم، هذا الانقسام لتبرير حملة عسكرية دامية، نفّذتها الميليشيات التابعة له، التي اتسمت بالانفلات والتطرف، نتيجة ارتكاب انتهاكات وحشية، لم تطَل الدروز فحسب، بل كل مَن عارض سلطته. وما زاد في الطين بلّة، هو التصعيد المتعمّد في السويداء بعد خلافات محلية مع عشائر البدو في البادية، إذ تحوّلت هذه الأخيرة ذريعة لتدخل النظام بحجة بسط الأمن، وهي حبكة باتت مألوفة في قاموس الاستبداد السوري، ومناورة اعتمدها نظام حافظ وبشار الأسد مرارًا وتكرارًا.

زِد على ذلك مقارنات باتت تفرض نفسها: تجربة الأكراد في الشمال الشرقي، الذين خُذلوا سياسيًا وعُوقبوا عسكريًا، والتي تُشبه في بنيتها ما يُمارَس اليوم ضد دروز الجنوب. إلا أن المجتمعات المحلّية لا تُروّض بالقوة، بل تُحتَوى بالشراكة.

أما التغطية السياسية لهذا الهجوم فوفّرتها لقاءات الشرع مع مبعوثين أميركيين، مثل توم برّاك، واتصالات غير مُعلنة مع الحكومة الإسرائيلية عبر أذربيجان. لكن المفارقة تكمن في أن المجازر الوحشية، وخصوصًا التعذيب العَلني والإهانات بحق مشايخ الدروز، دفعت بإسرائيل إلى التدخّل عبر ضربات جوية مباشرة لردع قوات الشرع، حمايةً للدروز في سوريا وإرضاءً لدروز اسرائيل، ورَدعًا لاحتمال سيطرة تنظيمات سلفية على الحدود.

غير أن التدخّل العسكري الإسرائيلي، وإن أتى ردًا على انتهاكات صارخة وموثّقة بحق الدروز، لا ينبغي أن يُستَغَل كورقة انتقام أو ذريعة لمواصلة القتال من قبل فصائل درزية في السويداء. فالحكمة السياسية، التي لطالما ميّزت الطائفة وقياداتها عبر التاريخ، تقتضي أن يكون هذا التدخّل محطة لوقف سَفك الدماء، لا لتوسيع رقعته.

المطلوب اليوم ليس الثأر، بل تثبيت موقع الدروز في المعادلة الوطنية السورية، على قاعدة العدالة لا الانتقام، والكرامة لا المزايدة. فالقوة الحقيقية لا تُقاس بعدد البنادق، بل بقدرة الجماعة على الصمود والتفاوض من موقع الندّية، لا من منطق الفوضى أو الثأر.

ولعلّ مشهد الشيخ المسن مرهج شاهين (أبو طلال) من بلدة الثعلة، وهو يحلق شاربه تحت التعذيب على أيدي عناصر تابعة لوزارة دفاع الشرع، يلخص فداحة المأساة. إن الألم في عينَي الشيخ أبو طلال يُجَسد الحقيقة التي يتجاهلها النظام الجديد: لا يمكن فرض الولاء بالإهانة، ولا يمكن التفاوض على كرامات مُنتَهَكة.

لقد أثبتت هذه الأحداث صدقية تحذيرات الشيخ الهجري ومخاوفه، وأثبتت أن استبدال البندقية بربطة عنق، كما فعل الشرع، لا يعني بالضرورة انتهاء النزعة الاستبدادية. فالسلوكيات الطائفية لمقاتلي "هيئة تحرير الشام" وذراعها الحاكمة في دمشق لا تختلف في جوهرها عن ممارسات النظام السابق، بل هي أسوأ منها لكونها تُمارَس باسم الدين و"التحرير".

الهجمات التي طالت قرى علوية في الساحل، وممارسات التنكيل التي سُجّلت ضد أبناء الطائفة هناك، تُظهر أن الدولة الجديدة ترى في التجييش الطائفي أداةً أساسية لإخضاع المناطق الخارجة عن طوعها. ومع انتشار فيديوات التنكيل والتعذيب على وسائل التواصل، بات من المستحيل إقناع الرأي العام بأن هذه الجرائم هي تصرفات فردية "غير منضبطة".

لقد أحدثت هذه المجازر شرخًا مذهبيًا عميقًا لن تُُرمّمه تصريحات أو لقاءات مصالحة. إنه لمن البديهي أن الدماء لا تجفّ بسهولة؛ والدروز الذين بدوا منقسمين في البداية، توحّدوا خلف الشيخ الهجري بعد أن بات واضحًا أن المعركة لم تعد تدور فقط حول "السلاح"، بل إنها معركة وجود وحفاظ على الكرامات.

يريد الرئيس الشرع فرض سيادة دولته على كامل الأراضي السورية، وهذا هدف شرعي من حيث المبدأ. لكنه يسعى لتحقيقه عبر القوة العارية، لا عبر الدستور والتفاهم الوطني. الشرعية لا تُفرض قسرًا، بل تُبنى بالثقة، ولا يُمكن أن تُبنى على إذلال مكوّنات الشعب السوري، من دروز وعلويين وكرد وغيرهم.

الدروز ليسوا طائفة سهلة الانقياد والانصياع، لكنهم ليسوا عصيين على التفاهم. إنهم في نهاية المطاف، يُقدّسون الأرض والعِرض، ويرفضون الإهانة. وما عدا ذلك، فإن كل شيء قابل للنقاش، شرط أن يُحترم كيانهم ولا يُستباح وجودهم.

في أغنيته الشهيرة "يا حيف"، التي تحوّلت إلى نشيد للثورة السورية، يقول الفنان الكبير سميح شقير، ابن القريا وبلدة الثائر سلطان باشا الأطرش:

"واحنا اللي قلنا اللي بيقتل شعبه، خاين… يكون من كان.

والشعب مثل القدر، من ينتخي ماين".

أما آن الأوان لأن يسمع الرئيس أحمد الشرع هذه الكلمات، لا كخصم، بل كطامح لبناء دولة، وليس كطامع في سلطة.

مكرم رباح
نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا