مشروع معروف ولبنان مكشوف

إسرائيل لا تريد الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في جنوب لبنان بعد قرار وقف الأعمال العدائية. تصرّ على استكمال حربها بالقتل والدمار والخراب، ومنع الأهالي الذين عادوا إلى أراضيهم من إعادة بناء ما تهدّم، وبالإصرار على منع العودة الجماعية، وبدء عملية إعادة الإعمار الشاملة. وتهدّّد بتصعيد عملياتها في العمق اللبناني، وتلوّح بالوصول إلى الأولي، ولا أحد يطالبها بتنفيذ ما التزمت به. المسؤولون الإسرائيليون لا يخفون نواياهم ومشروعهم. يتصرفون على أساس أن فرصة جاءت فلماذا تفويتها؟ كل هذا كان قبل الحرب ضد إيران، فكيف بعدها وبعد الشراكة الأميركية فيها؟ في مفاوضات مع عدد من هؤلاء المسؤولين الأساسيين قالوا بوضوح: "لا نريد عودة الأهالي إلى الجنوب وخصوصاً القرى الحدودية. هل تريدون من سكان الشمال الذين لم يعودوا إلى ديارهم بعد أن يعودوا ويروا أعلام حزب الله ترفرف على سطوح الأبنية؟ هل تعتقدون أن هذا يطمئن سكاننا"؟ وفي المستجدات، أرسلت إسرائيل إلى الأمم المتحدة رسالة تعبّر فيها عن عدم اقتناعها بالحاجة إلى قوات "اليونيفيل" في الجنوب، وذلك قبل أسابيع من مناقشة قرار التجديد لها في مجلس الأمن. الأمر لا يندرج في سياق التصعيد والابتزاز فقط. غاياته أبعد من ذلك. لن تكون المنطقة الجنوبية إلا تحت إشرافهم، أو إشراف أميركي- اسرائيلي كما يأملون، ولن تكون القوى الأمنية اللبنانية حاضرة إلا بموافقتهم على كل الخطوات التي ستتخذ في هذا الإطار، وهذا أمر قديم ومستمر.
الدولة اللبنانية تعمل تحت سقف: خطاب القسم الذي أعلنه الرئيس جوزاف عون. والبيان الوزاري الذي قدمته الحكومة ونالت على أساسه الثقة في المجلس النيابي. والعنوان الأساس فيه إلى جانب الإصلاحات: حصرية السلاح في يد الدولة. الجيش أنجز مهامه في هذا الاتجاه بشكل شبه كامل في الجنوب باعتراف الجميع، الأميركيين والفرنسيين، لجنة المراقبة العسكرية والأمم المتحدة. ويتولى الرئيس عون استكمال إنجاز العمل بحوار هادئ وهادف. هادئ لا يستفز أحداً ويأخذ بالاعتبار استمرار الاستباحة الاسرائيلية للسيادة اللبنانية ولاتفاق وقف الأعمال العدائية. وهو متوافق مع رئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي على أن هذا الأمر يعيق مسيرة تثبيت الأمن والاستقرار في لبنان. وقد أعلن رئيس الجمهورية منذ أيام: " .. بعهدي لن يكون تهميش لأي مكوّن. ولا يمكن لأي فريق أن يلغي فريقاً آخر ولا فضل لطائفة على أخرى والحرب الاسرائيلية استهدفت كل لبنان". وحواره هادف: تثبيت مبدأ حصرية السلاح في يد الدولة اللبنانية .
في الداخل اللبناني، قوى تستعجل الأمور. تنتقد الرئيس. تصرّ على نزع السلاح فوراً. تحرّض على كل من يعمل أو يدعو إلى أخذ الأمور بحكمة. ثمة من يطلق تصريحات لا تخدم الاستقرار والوحدة الوطنية وتستفزّ مشاعر فريق أساسي في البلد، الذي بدأ يتحضّر لانتخابات نيابية بعد أشهر. وبالتالي، تعتبر هذه القوى أن الضغط الذي يمارس في مسألة تسليم السلاح وفي التفاهمات الانتخابية المقبلة، والضغوط الخارجية المرافقة لها، سوف تترك أثرها على نتائج الانتخابات تغييراً في موازين القوى داخل المجلس النيابي الجديد. وبالتالي، داخل الحكومة التي ستشكّل لاحقاً، وسنكون أمام معادلة سياسية جديدة، خصوصاً إذا نجحت هذه القوى في كسر حصرية "التمثيل الشيعي" في البرلمان الجديد. الفريق المعني و"المستهدف" يتشدّد. بعضه يذهب إلى خطاب تصعيدي بات معلناً يوضح فيه: "أن مسألة تسليم السلاح غير واردة لأن ما يطرح علينا هو الاستسلام القاتل، وليس تطبيق اتفاق وقف الأعمال العدائية وقد التزمنا به ولا نزال". ويخرج من صفوفه من يستعرض السلاح في مناسبة عاشورائية، مما أثار ردّ فعل كبير، سياسياً وإعلامياً في بيروت، ولم يكن في هذا التصرّف حكمة في التوقيت والأساس، فالوضع في البلد متشنّج.
هنا يأتي الضغط الدولي والعربي في اتجاه تسليم السلاح ضمن مهلة محددة ومعلنة بقرار من الحكومة، وإلا فليتحمّل لبنان المسؤولية. يعني سيكون انكفاء دولي وعربي عن القيام بأي دور، وستستمر إسرائيل في استباحتها. وبطبيعة الحال سيؤدي ذلك إلى مزيد من الخراب والدمار والانقسام الداخلي الحاد والانكشاف التام .
أمام هذا المشهد يبدو الأفق مغلقاً. وكما قلت سابقاً ما جرى بين إيران واسرائيل هو جولة ستليها جولات أخرى، وثمة نقاشات جدية حول تقسيم جديد للأدوار ومناطق النفوذ في المنطقة، التي تعيش حالة غليان. وسيكون لبنان أمام هذا الجو الحلقة الأضعف مجدداً. فهل ثمة شيء يطمئن في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة؟
مشروع إسرائيل معروف. الانقسام اللبناني أخطر عنصر في وضعنا المكشوف. والانتماء الوطني الحقيقي يفرض على كل القوى السياسية التصرف بعيداً عن الأحقاد والمواقف العشوائية والشعبوية، لا قيمة لسلطة ودور وموقع و"انتصارات" وبطولات ونتائج انتخابات، إذا وقعت الكارثة الكبرى في البلد، وطاولت آثارها كل مرتكزات وأسس التركيبة اللبنانية. لا بد من نقاش وطني جدّي يبلور اتفاقاً لبنانياً مطمئناً الجميع، ويطلق مشروع إعادة ترميم ما تهدّم سياسياً وبنيوياً واقتصادياً ومالياً، ويحمي لبنان الكبير ودولته. هذا يتطلب بالدرجة الأولى مرونة وهدوءاً في التفكير والمقاربات وبقاء جسور وخطوط التواصل مفتوحة. ليس ثمة ما يدعو إلى التفاؤل، ولكنها معاناة ومعركة مصير تستحق كل التضحية والعناء لتجنيب البلد متاعب ومصاعب الأيام السوداء، التي تلوح في الأفق المسدود. فلتفتح العقول للوصول إلى حلول لا تخرج عن الأصول.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|