نهاية نظام الإقطاع السّياسيّ..
لم يتبقَّ من “نظام أبوات” الطوائف في لبنان، سوى أشباح زعامات تصارع عند عتبة الشيخوخة. حالة اليتم الصامتة التي تسيّج واقع الطائفة الشيعيّة بشكل أوضح من غيرها، تمتحن السنّة بدرجة مشابهة، وتلوح أيضاً في أفق الدروز والمسيحيّين. هي تعبير أكيد عن فراغ سياسيّ متنامٍ في لبنان يتغذّى على انهيار شبكة الأمان الرمزيّ، التي اختصرتها منظومة الإقطاع السياسيّ “وبييّ الطائفة”.
الطوائف عامّةً بلا مركز جاذبيّة. حيث يتوفّر مركز كما في حالة رئيس “القوّات اللبنانيّة”، سمير جعجع، فإنّه مركز لجزء من طائفته، في نظام يقسو في العادة على أنصاف الآباء.
صحيح أنّ الكثير من الوجوه هي نفسها في ظاهر المشهد تقريباً، لكنّ بنية العقد الاجتماعيّ غير المكتوب، التي أعطت هذه الوجوه معناها وموقعها، تتفكّك تباعاً بلا أيّ قابليّة جدّية للترميم، أو أفق ديناميكيّ يتيح استبدالها.
تطوّرت هذه البنية عند المسلمين السنّة والشيعة بعد الطائف، وامتدّت على الساحة المسيحيّة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، واستفحلت بعد حرب تمّوز 2006، ثمّ انقلاب السابع من أيّار 2008 واتّفاق الدوحة، لتصير هي الدستور والقانون السياسيّ والاجتماعيّ والأمنيّ للبنان، قبل أن يبدأ الاهتزاز الشامل في مفهوم الزعامة نفسه داخل الطوائف اللبنانيّة، مع “ثورة 2019” ثمّ انفجار المرفأ 2020 وحرب إسناد غزّة 2023/2024.
أفرزت هذه السياقات أسئلة وجوديّة في وجدان الطوائف. السنّة يدورون في حلقة سؤال القيادة، لا منذ خروج سعد الحريري من المعادلة، بل منذ اغتيال والده قبل عقدين. الشيعة ما استفاقوا بعد من لحظة اغتيال حسن نصرالله واستشعارهم الأكيد أنّ زمن الثنائيّة الشيعيّة كما عرفناه قد انتهى.
أمّا الدروز، الأسبق من غيرهم على نظام الأبوّة والإقطاع السياسيّ، فيعيشون انتقالاً صعباً من وليد جنبلاط إلى جيل جديد في لحظة توتّر درزيّة تحفّ بكلّ الدروز في لبنان وسوريا وإسرائيل. في المقلب الآخر يتوزّع المسيحيّون بين زعامة صلبة لكنّها غير جامعة لـ”القوّات اللبنانيّة”، وكتلة عونيّة كبيرة تبحث عن معنى لدورها ووجودها وخطابها بعد انحسار الدور المؤسّس لميشال عون.
الشّيعة أمام أسئلة وجوديّة
وقع التحوّل الأكثر دراميّة داخل الطائفة الشيعيّة. مقتل حسن نصرالله في غارة إسرائيليّة على الضاحية الجنوبيّة في أيلول 2024 لم ينهِ فقط قيادة امتدّت اثنين وثلاثين عاماً، بل أغلق مرحلة كاملة من التاريخ السياسيّ للشيعة في لبنان. نصرالله لم يكن أميناً عامّاً لحزب فحسب، بل كان رمزاً عابراً للطائفة وجسرها نحو أدوار داخليّة وإقليميّة غير مسبوقة في تاريخها.
فاقم اليتم، أنّ رحيله ترافق مع استنزاف بشريّ وعسكريّ ومعنويّ أصاب “الحزب” في مواجهة قاسية مع إسرائيل، كشفت عن اختراقات أمنيّة إسرائيليّة محبطة وتفوّق تقنيّ صادم. أعقبه انهيار ركن رئيسيّ من أركان شبكة التحالفات الإقليميّة مع سقوط نظام الأسد السوريّ، ثمّ وصول الحرب إلى قلب طهران وتهديد مرشدها بالتصفية.
في موازاة ذلك يعيش نبيه برّي خريف عمره السياسيّ. الرجل الذي شكّل أحد أعمدة النظام منذ مطلع التسعينيّات، لا يمتلك ترف بناء مشروع طويل الأمد لحركة “أمل” ولا للطائفة، في زمن لم يعُد يُسمح لزعيم واحد بالإمساك بمفاصل طائفته.
بالانهيار الماليّ والاقتصاديّ خسرت حركة “أمل” القدرة على استتباع المؤسّسات الحكوميّة والإداريّة والماليّة للدولة، وهو ما أوقف تدفّق الموارد الاقتصاديّة اللازمة لبناء النفوذ وتغذيته. بالهزيمة العسكريّة، تراجعت الهيبة والسطوة والتفوّق الذي منحه سلاح “الحزب” أمام باقي الطوائف والأطراف اللبنانيّة، بعد أن أصبح وجوده جزءاً من مشهد الانهيار الشامل وتراجع الدور الإقليميّ لمحور إيران.
إزاء فقدان الشيعة ركيزتَي الدولة والمقاومة معاً، يقف البيت الشيعيّ أمام أسئلة وجوديّة تخصّ المعادلة التي حكمَته، تبدأ بهويّة من يمسك بخيوط التمثيل السياسيّ داخل مؤسّسات النظام مستقبلاً وتصل إلى إعادة تعريف موقع ودور الشيعة في لبنان ما بعد السلاح و”المقاومة”، في ظلّ تغيير عميق يصيب البيئة الإقليميّة.
السُّنّة: ارتباك استراتيجيّ
منذ اغتيال رفيق الحريري عام 2005 دخلت الطائفة السنّيّة في محاولة محمومة لإعادة إنتاج الحريريّة السياسيّة. لم يكن سعد الحريري مجرّد وريثٍ لزعامة أبيه، بل أُلقي عليه حمل لإعادة تركيب شبكة مصالح وعلاقات داخليّة وخارجيّة تشكّلت خلال عقود وفي بيئة عربيّة وإقليميّة ودوليّة مختلفة. عثراته حكمتها على الدوام توازنات إقليميّة ودوليّة، وفي ظلّ بيئة داخليّة حكمها “الحزب” بالتوحّش الاغتياليّ الممنهج.
إعلانه في بداية عام 2022 تعليق عمله السياسيّ وطلبه من “تيّار المستقبل” عدم خوض الانتخابات لم يكن مجرّد خطوة تكتيكيّة، بل بدا كأنّه يقفل الباب على مرحلة كاملة. أمّا إعلانه الملتبس في ذكرى اغتيال والده عام 2025 عن عودة ما وبشكل مختلف، فقد فاقمت إحساس الطائفة، التي لا تزال تمنحه صفتها التمثيليّة، أنّها بلا مركز ثقل عمليّ واضح داخل النظام، أو قيادة مشروع سياسيّ، يتجاوز التمثيل الزعاماتيّ للطائفة.
غيَّر مقتل نصرالله، وسقوط النظام السوريّ، وتراجع وزن إيران الإقليميّ، الخريطة السياسيّة التي يتحرّك فوقها أيّ زعيم سنّيّ لبنانيّ. مع ذلك يبقى السؤال مفتوحاً بشأن قدرة الحريريّة على استعادة موقعها السابق أم أنّ الطائفة تتهيّأ لاستعادة زمن التعدّديّة والتنافس بين مرجعيّات عدّة. الأكيد أنّ السّنّة يعيشون ارتباكاً استراتيجيّاً يترنّح بين أن لا فراغ مطلق ولا زعامة “أبويّة”، بل حالة بحث مستمرّ عن صيغة قيادة جديدة لم تتبلور بعد.
الدّروز: زعامة مفردة أم متعدّدة؟
الهدوء الذي يغلّف ظاهر المشهد الدرزيّ، يُخفي واحدة من أشرس حقب الاضطراب في العمق.
منذ عام 2017، عندما ألبس وليد جنبلاط نجله تيمور كوفيّة فلسطين التي ورثها عن والده كمال جنبلاط في مشهد رمزيّ في المختارة، بدأت عمليّة انتقال الزعامة الدرزيّة تأخذ طابعاً تدريجيّاً ومدروساً.
بعد خمس سنوات، في نيسان 2022، وقبيل الانتخابات النيابيّة، عزّز جنبلاط هذه الرمزيّة بواقع سياسيّ واضح معلناً عمليّاً أنّ القرار في الجبل بات بيد تيمور، وأنّ زمن انتقال السلطة قد بدأ فعليّاً.
في أيّار 2023 اكتمل المسار باستقالته من رئاسة الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ وانتخاب تيمور رئيساً للحزب، ليرث الابن قيادة مؤسّسيّة كاملة، وتدخل الطائفة الدرزيّة مرحلة جديدة تتجاوز شخص وليد جنبلاط من دون أن تنفصل عنه أو عن إرثه.
بيد أنّ وليد جنبلاط شكّل على مدى عقود هويّة سياسيّة للطائفة لا مجرّد ممثّل لها. ابتداء من الحرب الأهليّة وصولاً إلى التسويات المتكرّرة بعد الطائف، كانت مهمّته حماية موقع الدروز في المعادلات اللبنانيّة والعربيّة على وقع تحوّلات إقليميّة دائمة. هنا الامتحان الأصعب.
يتحرّك تيمور جنبلاط اليوم في عالم مختلف تماماً. الطائفة الدرزيّة في سوريا تعيد البحث عن دورها بعد سقوط النظام هناك، ودروز فلسطين تحت ضغط صراعات عسكريّة وأمنيّة مفتوحة، تعيد تعريف علاقتهم بإسرائيل كما بالنظام السياسي الجديد في دمشق.
لم يعُد التداخل بين دروز المشرق مجرّد تفصيل اجتماعيّ، بل صار عنصراً استراتيجيّاً معقّداً في حسابات القوى الإقليميّة، كما في حسابات الزعامات الدرزيّة وعلى نحو أكثر تعقيداً من كلّ ما سبق في تاريخ المختارة.
لا يواجه تيمور تحدّي وراثة أبيه وحسب، بل يقف في مواجهة سؤال الدور الدرزيّ في المشرق: هل تستطيع زعامة سياسيّة مفردة في جبل لبنان أن تستمرّ في إدارة هذا التشابك؟ أم أنّ الطائفة ستشهد تعدّداً في مراكز القرار السياسيّ، لا الديني أو الاجتماعيّ وحسب، يمتدّ من لبنان إلى سوريا وفلسطين؟
يستشعر الدروز حرارة هذا السؤال الذي لم تتّضح بعد حتّى الملامح الأولى للإجابة عنه.
المسيحيّون: لا مرجعيّة جامعة
سمير جعجع، في الساحة المسيحيّة، هو الزعيم الأكثر تماسكاً. حزب منظّم، كتلة نيابيّة وازنة، خطاب واضح، وحضور سياسيّ مستمرّ. لكنّ هذه القوّة الصلبة تظلّ تمثّل شريحة من المسيحيّين لا مجتمعهم السياسيّ كاملاً. الانقسام المسيحيّ ما زال عميقاً، وإن بدأ التفلّت الانتهازيّ العونيّ من الالتزامات السابقة يتظهّر أكثر فأكثر لا سيما بشأن النظرة إلى الطوائف الأخرى أو اصطفافات المحاور الإقليميّة.
يُضاف إلى الانقسام المسيحيّ العامّ، تشرذم “التيّار الوطنيّ الحرّ” بعد انتهاء ولاية ميشال عون الرئاسيّة وتراجع حضوره الشعبيّ. جبران باسيل ورث حزباً كبيراً لكنّه ورث معه تركة ثقيلة من الصراعات الداخليّة والاتّهامات بالفساد والعزلة السياسيّة. شخصيّات كثيرة خرجت من عباءة “التيّار”، وتوزّعت القاعدة العونيّة بين ولاءات متعدّدة، حيث باتت الكتلة التي شكّلت يوماً القوّة المسيحيّة الأكبر، هي الأكثر عرضة للتجاذب من دون مشروع جامع.
صحيح أنّ انتخاب جوزف عون رئيساً للجمهوريّة في بداية عام 2025 أدخل عنصراً جديداً على الخريطة المسيحيّة، لكونه ليس امتداداً مباشراً لأيّ من المعسكرين، ويتّكئ فقط على شرعيّة المؤسّسة العسكريّة وتجربة إداريّة في مرحلة الانهيار. إلّا أنّ وجوده في بعبدا غير مرشّح لخفض حدّة الاستقطاب المسيحيّ، ولا يملك رصيداً زعاماتيّاً يطمئن المسيحيّين بشأن موقعهم في النظام، في ظلّ انطفاء عون وعجز سمير جعجع، عن تحويل زعامته إلى مرجعيّة مسيحيّة جامعة أو وطنيّة شاملة من خلال الوصول إلى رئاسة الجمهوريّة، بسبب رفض الطوائف الأخرى.
قد يكون الشعور باليتم أقلّ حضوراً في الواقع المسيحيّ اليوم، لكنّ الزعامة المسيحيّة فقدت قدرتها على بثّ اليقين الذي اختبره المسيحيّون بعد عام 2005. لا زعيم واحداً قادراً على ادّعاء تمثيل الجماعة “وحقوقها”، ولا مشروع واحداً قادراً على ادّعاء احتكار المستقبل.
الزّعامات تشيخ
منذ نهاية الحرب الأهليّة وحتّى السنوات الأخيرة عاش لبنان على أساس صيغة واضحة غير مكتوبة، لكلّ طائفة زعيم (أو اثنان) يمسك بمفاتيح التمثيل السياسيّ والموارد والقرار. السنّة ارتبطوا بالحريريّة، الشيعة بالثنائيّ، الدروز ببيت جنبلاط، والمسيحيّون توزّعوا بين جعجع وعون. هذا كان جوهر ما يمكن تسميته بنظام الإقطاع السياسيّ الذي امتدّ بصيغ معدّلة منذ الطائف وحتّى عام 2022.
اليوم تتفكّك هذه المعادلة ببطء. الزعامات تشيخ أو تغيب أو تنسحب. الموارد التي كانت تسمح بتمويل شبكات الزبائنيّة تراجعت بشكل حادّ. الرعاية الإقليميّة تغيّرت طبيعتها. الأجيال الجديدة داخل الطوائف نفسها بدأت تطرح أسئلة لا تنسجم مع القاموس القديم للإقطاع السياسيّ.
الأخطر أنّ انهيار هذا النموذج يجري بالتوازي مع وجود لبنان على خطّ تماسّ مع حرب إسرائيليّة لبنانيّة مرشّحة للتجدّد، وسعي واضح إلى إنتاج قوانين انتخابيّة تحرم المغتربين من المشاركة بغية إعادة إنتاج بقايا “نظام الأبوات”.
بدل الفراغ الواحد، يعيش لبنان فراغين: فراغ في الزعامة داخل الطوائف، وفراغ في المشروع الوطنيّ الجامع، الذي يمتلك سرديّة واضحة للّبنانيّين بشأن من سيحكم البلد وكيف. ثمّة توازٍ نادر في تاريخ البلد بين شيخوخة جماعيّة للزعامات التقليديّة وبين غياب بديل منظّم قادر على إدارة الانتقال، إلى ما بعد زمن الإقطاع السياسيّ.
نديم قطيش -أساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|