الصحافة

بعد الجدل حول "تطمين إسرائيل"... كيف يدير "حزب الله" معركة الرسائل؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في خطابه الأخير، حرص الأمين العام لـ"​حزب الله​" الشيخ نعيم قاسم على رفع السقف وترك هامش للتسوية في الوقت نفسه. تجلّى ذلك بالرسائل التي حملها الخطاب، فهو جدّد التمسّك بسلاحه في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرّض لها، إلا أنّه مع ذلك ترك الباب مفتوحًا أمام مفاوضات، لكن على أساس تطبيق اتفاق ​وقف إطلاق النار​ أولاً، في غمز من قناة ​إسرائيل​ التي تضع شروطًا لوقف الحرب، لم ينصّ عليها اتفاق وقف النار الذي وقّعت عليه.

إلا أنّ الجدل الواسع الذي أثاره الخطاب تركّز في جملة واحدة منه، لا تزال حتى الآن محور نقاش في الداخل، وهي قوله إنّ "لا خطر" على ​أمن المستوطنات​ في الشمال، ولو جاءت هذه العبارة في إطار نفيه للذرائع التي تتلطّى خلفها تل أبيب لتبرير مواصلة العدوان على ​لبنان​ من طرف واحد. فمثل هذه الجملة بدت لكثيرين غير مألوفة في خطاب الحزب، ولا متناغمة مع ثوابته وأدبيّاته، حتى إنّ هناك من عدّها "رسالة تطمين" نادرة من نوعها إلى الإسرائيليين.

سريعًا، اشتعلت ردود الفعل في الداخل، فاستخدمها خصوم الحزب ليقولوا إنّ الشيخ قاسم قام بما يشبه "الانقلاب الذاتي"، فيما رأى البعض الآخر أنّه "يطمئن" إسرائيل فيما "يهدّد" الداخل، ملمحًا إلى "ضياع للبوصلة". وفيما دعا المحسوبون على الحزب إلى قراءة العبارة في سياقها، سواء الخطابي أو الزماني، فإنّهم يرون أنّ دلالتها الوحيدة أنّ الحزب لا يريد الحرب.

في مطلق الأحوال، وبمعزل عن كلّ النوايا، يبقى الأكيد أنّه خلف هذا الجدل، ثمّة ما هو أعمق: معركة وعي كاملة تدور على تخوم الحدود، وحولها. ففي مقابل خطاب الحزب، يُرصَد منذ أيّام ضخّ إعلامي وسياسي إسرائيلي متزايد عن الحرب المقبلة، أو "المعركة الأخيرة"، حتى إنّ بعض التسريبات تتحدّث عن ضربة "نوعية" أو "استباقية" لا تنتظر سوى التوقيت المناسب. فكيف يدير "حزب الله" معركة الرسائل وسط هذا المشهد المعقّد؟!.

في المبدأ، يمكن الحديث عن مشهد جديد يتكوّن بين الرسالتين، الإسرائيلية والحزبية، فإسرائيل من جهة تلوّح بالحرب، وتتحدث عن خطط لضربة نوعيّة تستهدف بنية الحزب، مع تشديد على أنّ القرار السياسي لا يزال يناقش "التوقيت"، لا "المبدأ". وفي المقابل، يخرج الأمين العام للحزب ليقول، عمليًا، إنّ الشمال الإسرائيلي ليس في دائرة الخطر الآن، قاصدًا بذلك أنّه باقٍ على التزامه باتفاق وقف إطلاق النار، والمطلوب من إسرائيل تنفيذه، قبل وضع شروط جديدة.

لكنّ هذه العبارة أثارت جدلاً واسعًا، إذ قرأ خصوم الحزب في ذلك "إقرارًا" ضمنيًا بوجود حدود لم يعد قادرًا على تجاوزها، وهو اعتاد أن يتوعّد المستوطنات، وأن يقدّم نفسه كعامل تهديد دائم للشمال الإسرائيلي، فإذا به اليوم يركّز على "طمأنة" العدو لا إخافته، في وقت لا يسري الأمر على الداخل اللبناني، الذي لا يزال الحزب يضعه في قلب النار، برفضه تسليم السلاح، رغم كلّ ما يبذله رئيس الجمهورية جوزاف عون مثلاً، من جهود لتبديد هواجسه.

في نظر هؤلاء، فإنّ التحول الذي طرأ على خطاب الحزب هو نتيجة لمراكمة الضربات التي تلقّاها خلال العام الماضي، من الاغتيالات التي شملت كبار قادته إلى الاستهدافات المتنقّلة، وصولاً إلى العقوبات ومحاولات خنق مصادر التمويل. لكن هذه القراءة، على قسوتها، لا تكفي وحدها لفهم ما يجري، والاتجاهات التي يمكن أن تسلكها الأمور، خصوصًا بوجود حراك دبلوماسي متعدد الاتجاهات، لم يقفل الباب حتى الآن رغم كلّ العراقيل.

وبمعزل عن أبعاد كلام قاسم، وما إذا كان يعكس تغيّرًا في النبرة، أم محاولة للتأثير على المفاوضات، يرى العارفون أنّ الأهمّ من ذلك هو أنّ الخطاب أقرب إلى محاولة لتحديد "حدود اللعبة" أكثر من كونه تنازلاً عنها، فضلاً عن كونه يكشف حجم التبدّل في أدوات إدارة الصراع، حيث باتت "الرسالة الإعلامية" جزءًا من حسابات الربح والخسارة، وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى عبارة "لا خطر على المستوطنات" كجزء من لعبة شدّ الحبال هذه.

في المقابل، لا يمكن تجاهل أنّ هذه الإدارة الحذرة للتصعيد تضع الحزب أمام امتحان مزدوج في الداخل. فمن جهة، هو مطالَب بحماية بيئته الجنوبية، التي أنهكتها الحرب والاغتيالات والاستهدافات المتكررة، وتعيش الآن هاجس تكرار الحرب، وبالتالي معاناة النزوح. ومن جهة أخرى، هو عاجز عن تقديم "ضمانات" حقيقية للبنانيين، لأنّ مفاتيح الحرب والسلم ليست بيده، بل تتداخل فيها حسابات إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما الإقليميين.

هنا بالذات يتقدّم الخصوم خطوة إضافية في نقدهم، فيتّهمونه بأنّه يوزّع الطمأنة في الاتجاه المعاكس: يطمئن المستوطنات الشمالية قبل أن يطمئن قرى الجنوب اللبناني، ويقدّم أولويّة الحفاظ على "هدنة الأمر الواقع" على حساب أمن الداخل واستقراره. لكنّ المؤيّدين لوجهة نظر الحزب يقولون إنّ المقصد هو دفع إسرائيل لتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يفترض أن ينعكس تهدئة للجبهة، ولذلك فإنّ التصعيد لن يخدم أحدًا في هذه اللحظة.

من الجانب الإسرائيلي، تبدو الصورة مختلفة ظاهريًا، لكنّها تكمل المشهد نفسه. فالإعلام العبري، العسكري خصوصًا، يرفع منذ أيام منسوب الكلام عن ضربة وشيكة لـ"حزب الله"، وعن ضرورة إنهاء "تهديد الشمال" قبل أن يرسّخ الحزب معادلاته الجديدة. إلا أنّ هناك من يرى أنّ هذه التسريبات لا تهدف فقط إلى تهيئة الرأي العام، ولكن في مكان ما إلى ممارسة ضغط نفسي وسياسي على الحزب وعلى الدولة اللبنانية، إضافة إلى الوسطاء، مفادها أنّ "الوقت ينفد".

في هذه المعركة المركّبة على جبهة الوعي، يجد لبنان الرسمي نفسه في موقع لا يُحسَد عليه. فالدولة، المرهقة أصلًا بأزماتها الاقتصادية والمالية، مدعوّة إلى طمأنة المجتمع الدولي بأنّها قادرة على ضبط الحدود وتطبيق القرارات الدولية، غير أنّها بطبيعة الحال غير قادرة على الذهاب إلى نزع السلاح بالقوة. وهنا، تتقاطع رسائل الحزب مع رسائل الدولة أحيانًا، وتتباعد أحيانًا أخرى، في وقت يبقى الحديث عن "استراتيجية دفاعية" يتّفق عليها الجميع مؤجَّلاً.

في النهاية، يمكن القول إنّ خطاب الشيخ نعيم قاسم الأخير، بما أثاره من جدل واتهامات وانقسامات، ليس سوى فصل جديد من معركة أوسع بكثير من جملة عن "أمن المستوطنات". هو انعكاس لتحوّل في طريقة إدارة "حزب الله" للصراع، من منطق الحسم السريع إلى منطق إدارة الزمن والرسائل، في لحظة إقليمية ودولية لا تسمح له بالمغامرة، ولا تسمح لخصومه أيضًا بفرض شروط كاملة. لكن هل يمكن لهذا الأسلوب أن يحمي لبنان من ضربة كبرى، أو ربما يؤجّلها؟ قد يكون من الصعب الجزم بذلك، خصوصًا أنّ هناك من يرى في الضخّ الإعلامي الإسرائيلي مؤشّرًا على أنّ الأمور تجاوزت مرحلة النيّة، ووصلت إلى التنفيذ.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا