مفاوضات مباشرة تستنسخ تجربتَيْ غزّة وسوريا؟
ما لم يعد مثار التباس أنّ لبنان يريد التفاوض مع إسرائيل. موقف مبدئيّ وقاطع سلّم به الرؤساء والأفرقاء باستثناء “الحزب” الذي رفض الخوض فيه. أمّا ما سيظلّ مثار التباس، وربّما يصبح معضلة، فهو آليّته. مشكلة الآليّة في الداخل أقلّ أهميّة وتأثيراً منها مع الطرف الآخر المعنيّ بالتفاوض، وهو إسرائيل، علاوة على الدول المهتمّة بلبنان وتريد تخليصه من مآزقه، لكنّها لا توافقه تماماً ولا تتوقّع أن يصل إلى آليّة التفاوض التي يتصوّرها ويتوخّاها.
ليس الكلام عن طلب لبنان التفاوض مع إسرائيل “أعجوبة”. هو مألوف في سوابق وفيرة على مرّ عقود من خلال ما اصطُلح على أنّه تفاوض غير مباشر في خلدة وكريات شمونة والناقورة لم يعُد في تلك المرّات وسواها إلّا وهماً ما دام المتفاوضون اجتمعوا في غرفة واحدة وإلى طاولة واحدة. عام 1996 في لجنة تفاهم نيسان كانت سوريا طرفاً فيها إلى الطاولة نفسها وفي تلك الغرفة في الناقورة.
أمّا التفاوض المحدَّث الجاري الحديث عنه فهو شأن آخر مختلف تماماً، ولا يتقاطع عنده الموقفان اللبنانيّ والإسرائيليّ بل يفترقان. وهو ما يفترض أنّ الوصول إلى أيّ من خيارَيْ البلدين العدوّين في التفاوض يقتضي اقترانه بصدمة كبيرة تضاعف الإخلال في موازين القوى: إمّا من خلال إرغام الدولة العبريّة على استعادة تجربة العقود المنصرمة بتفاوض لا يزال يُسمّى غير مباشر، أو فرض الخيار المرّ على الدولة اللبنانيّة بجهرها بجهوزها للجلوس مع إسرائيل وجهاً لوجه.
الأميركيّ سيكون شاهداً
الاحتمال الوسطيّ أن يكون الأميركيّون وحدهم بينهما، دونما أن يعني هذه المرّة تكرار ما رافق اتّفاق 17 أيّار 1983 ولا حتماً الترسيم البحريّ عام 2022، كما لو أنّهم حَكَم، بل اقتصار الحضور الأميركيّ على أن يكون شاهداً على “قبول” لبنان بالشروط الإسرائيليّة قبل الوصول إلى الطاولة وفي خلالها.
مؤدّى ذلك إسقاط أيّ فرصة للحديث عن تطوير لجنة الخمسة المعروفة بـ”الميكانيزم” لتكون إطاراً جديداً لمهمّة مختلفة هي الذهاب إلى أبعد من مراقبة وقف النار وضمانه ومنع الانتهاكات والتحقّق من سلامة التنفيذ، بالانتقال إلى الخوض الفعليّ في مقاربة سياسيّة للنزاع اللبنانيّ ـ الإسرائيليّ. ما طرحه رئيس الجمهوريّة جوزف عون عن التفاوض مع إسرائيل، وطوّره رئيس البرلمان نبيه برّي بحصره في لجنة “الميكانيزم”، وانقسام من حوله الأفرقاء اللبنانيّون بين مطالِب بتفاوض مباشر ومؤيّد للجنة الخمسة ورافض بالمطلق للتفاوض، يجعل الخيار محاطاً بعقبات يصعب تذليلها بسهولة:
1- وجد الأفرقاء الخمسة الموقّعون على اتّفاق وقف النار في 27 تشرين الثاني 2024، بلا استثناء، أنّ أقصى ما يمكن تحقيقه فيه هو تطبيقه على جنوب نهر الليطاني فقط بانسحاب “الحزب” وانتشار الجيش فيه. وهو ما بدا آنذاك، خلافاً لتوقّعات القرار 1701، أنّه يصلح وحده في قرار وقف النار.
بسقوط نظام الرئيس السوريّ بشّار الأسد بعد أقلّ من أسبوعين في 8 كانون الأوّل 2024، ثمّ الهجوم الأميركيّ والإسرائيليّ على إيران واستهداف منشآتها النوويّة وترسانتها الصاروخيّة بعد أقلّ من سنة في 13 حزيران 2025، نشأت وقائع وحقائق جديدة:
فيما نفّذ لبنان و”الحزب” ما التزماه، أخرجت إسرائيل نفسها تدريجاً من الاتّفاق وثابرت على هجماتها العسكريّة. بذلك فقد وقف النار مرجعيّته كاتّفاق بين لبنان وإسرائيل برعاية دوليّة وأضحى حبراً على ورق، وفقدت معه لجنة “الميكانيزم” المهمّة المفترض أنّها معنيّة بتطبيقها بضمانات دوليّة تخلّى عنها أوّل عرّابي الاتّفاق، وهم الأميركيّون.
2- ليس خيار التفاوض المباشر وحده ما يُدعى إليه لبنان، بل يُقدّم له الطبقان الملازمان لهذا الخيار باستنساخ تجربتَيْ غزّة وسوريا في الوصول إلى إنهاء الحرب معه.
الاستنساخ الأوّل يقضي بوقف النار واسترداد الأسرى وإخلاء الجنوب تماماً من “الحزب” في خطوات متدرّجة مقابل وقف الاعتداءات قبل الوصول إلى انسحاب القوّات الإسرائيليّة من المناطق التي تحتلّها. على صورة مصير “حماس”، يُراد تفكيك “الحزب” تماماً جنوب نهر الليطاني، فيما لا تتوقّف إسرائيل عن التشكُّك في كلّ ما طُبّق منذ 27 تشرين الثاني.
اجتماعات وجهاً لوجه
أمّا الاستنساخ الثاني فهو الاجتماعات التي عقدها وزير الشؤون الاستراتيجيّة الإسرائيلي رون ديرمر مع وزير الخارجيّة السوري أسعد الشيباني في آب وأيلول الفائتين، على نحو يجلس لبنان وإسرائيل وجهاً لوجه في تفاوض مباشر على مستوى سياسيّ رفيع.
لا يكتفي هذا الشرط برفض مسبق لكلّ ما يدور حول توسيع لجنة “الميكانيزم” وضمّ تقنيّين مدنيّين إليها، مع أنّه تنازل لبناني مهمّ، بل يريد إظهار مقدرة الدولة العبريّة على أن “تُعلّم” على السلطات اللبنانيّة أن لا استقرار في جنوب لبنان ولا انسحاب لقوّاتها قبل الخوض في المفاوضات المباشرة. المعروف عنها تاريخيّاً عدم تحبيذها مفاوضات متعدّدة الأطراف، وغالباً ما انحازت إلى التفاوض الثنائيّ ونجحت في خطواته تباعاً مع مصر والأردن ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، وكادت مع لبنان عام 1983. في مؤتمر مدريد عام 1991 عوّلت على المرحلة التالية من المفاوضات المتعدّدة الأطراف، وهي الثنائيّة.
3- يكثر حديث إسرائيل، أحزابها، إعلامها وتقارير أجهزة استخباراتها وحكومتها دونما توقّف عن رصدها تهريب أسلحة لـ”الحزب” من الحدود الشرقيّة مع سوريا، علاوة على تهريب أموال إليه. المفارقة أنّ ما تشيعه غير موثّق وربّما يستند إلى إفادات ومعلومات من متعاملين معها في البقاع، دونما أن تمتلك أدلّة حسّيّة عليه أو تُقدم على مهاجمة عمليّات التهريب ولا أماكن تخزين السلاح ولا المسالك التي يتنقّل فيها المهرّبون، ولا تعرف حجم التهريب، فيما لم تتردّد في المرحلة السابقة في مهاجمة مخازن أسلحة “الحزب” وبناه العسكريّة وأنفاقه ومقاتليه.
معاودة الحرب
يعزّز تكهّن إسرائيل أنّ “الحزب” بنفسه يؤكّد مرّة تلو أخرى وبإفراط غير معتاد أنّه لم يُعِد بناء تنظيمه وهيكليّته فحسب، بل ضاعف ترسانته وتسلّحه ومقدرته على التجنيد للعودة إلى الحرب. أضف أنّ “الحزب” يعرف أنّ إسرائيل لا تعرف كيف يتسلّح وأيّ عتبة جديدة بلغها ومدى استرجاعه لما كان دُمّر في 66 يوماً من الحرب الأخيرة.
بذلك ترتفع توقّعات إقدامها على معاودة الحرب على “الحزب”، لكن هذه المرّة، تبعاً لبعض المعلومات المتوافرة في أوساط دبلوماسيّة، تفتقر إلى بنك أهداف وداتا جديدة عن أولئك الذين يديرون الغرفة المقفلة لقرار “الحزب” وقادته العسكريّين الجدد سوى أنّهم التلاميذ المفترضون لرجال الصفّ الأوّل الذين قتلتهم بين تمّوز وأيلول 2024.
نقولا ناصيف - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|