ضمّ الضّفّة: طار أوسلو… هل طارت الدّولة؟
تخطو إسرائيل خطوات سريعة نحو ضمّ الضفّة الغربية أو مساحات واسعة منها، وبلغت مرحلة “التتويج” لمشروعها الاستيطاني الطويل الأمد. فالمشهد الحالي يكشف عن تحضيرات مدروسة بعناية: قوانين وتشريعات تُفصَّل على مقاس الضمّ، ومقتلة يوميّة بحقّ الفلسطينيّين وغطاء سياسي داخلي وخارجي يُراد له أن يحصّن القرار، وصولاً إلى تكريس الضفّة جزءاً لا يتجزّأ من “الدولة اليهودية”.
الخطّة ليست وليدة اللحظة، فهي محفوظة منذ سنوات في أدراج المؤسّسة الإسرائيلية، تنتظر الظرف الدولي والإقليمي الملائم. وقد وجدت حكومة بنيامين نتنياهو في التحرّكات الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية ذريعةً لتسريع تنفيذها، بحيث يتحوّل الردّ الإسرائيلي من موقف سياسي إلى واقع ميداني يفرض نفسه بالقوّة ويغلق الباب أمام أيّ تسوية مستقبليّة.
هكذا تتحوّل القضيّة الفلسطينية إلى مفصل استراتيجيّ جديد، لا يهدّد حلم الدولة الفلسطينية وحده، بل يفتح الباب أمام فوضى جيوسياسية قد تعصف باستقرار الإقليم بأسره.
في انتظار الضّوء الأخضر الأميركيّ
يعني ضمّ الضفّة رسميّاً نسفَ اتّفاق أوسلو، والإجهاز على حلّ الدولتين. تمّ الأمر ولا يحتاج الإعلان الرسمي إلّا إلى توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وموافقته. عطّل الأخير مرّتين في ولايته الأولى خطّة بنيامين نتنياهو في هذا الشأن. لا تبدو المرّة الثالثة ثابتة. يبدو ساكن البيت الأبيض للمرّة الثانية أكثر غضباً من إسرائيل في رفضه للحماسة الأوروبيّة والكنديّة والأستراليّة للاعتراف بفلسطين دولة. إذا لم يوافق على الضمّ الكامل فقد يوافق على ضمٍّ للمستوطنات وأجزاء من الأرض يكون أثره السياسي والميداني والمعنوي والاستراتيجي معادلاً للاستحواذ الكلّيّ.
مهّدت واشنطن لإجهاض “حلم” الاعتراف والمشروع. هدّدت حلفاءها بالعقاب، وبدأت بالفعل باتّخاذ إجراءات ضدّ كندا ودول القارّة القديمة لأنّهم جرُؤوا على النطق باسم فلسطين وحقوقها الطبيعية والشرعيّة. أمّا العقاب الأشدّ فكان ضدّ السلطة الفلسطينية ورئيسها وقادتها الذين لم يشفع لهم صمتهم على الارتكابات الإسرائيلية الفظيعة في غزّة وتنديدهم الدائم بـ”حماس”، حين ألغت تأشيراتهم لمنعهم من المشاركة في أعمال الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة والتصفيق لإعلان الدولة.
بين الضمّ الكامل والقضم التّدريجيّ
يناقش “الكابينت” الإسرائيلي حجم الضمّ والمساحة المستهدَفة. بعض الوزراء يريده “وجبة كاملة” لتحقيق الحلم الصهيوني بـ”يهودا والسامرة” والتخلّص مرّة واحدة وإلى الأبد من كابوس الضفّة ونبضها. آخرون يفضّلون القضم التدريجيّ لضمان الموافقة الأميركية. والخيارات تراوح بين:
– الاعتراف القانونيّ بالكتل الاستيطانية الكبرى داخل الضفّة وإعطاء شرعيّة للمستوطنين.
– ضمّ المناطق “ج” والتجمّعات الاستيطانية، وهي الجزء الأكبر من الضفّة، إذ تمثّل 61 في المئة من مجمل مساحتها، وتسيطر حالياً السلطات الإسرائيلية على الإدارة المدنيّة والأمنيّة فيها.
– ضمّ غور الأردن وكامل حدود الضفّة مع المملكة.
خطط الاستيطان المنطلقة منذ زمن تحت أنظار العالم وصمته، توّجها الوزير بتسلئيل سموتريتش بتنفيذ مشروع E1 الاستيطانيّ الهادف إلى عزل القدس وفصل شمال الضفّة عن جنوبها، وبناء 3,500 وحدة سكنيّة في مستوطنة معاليه أدوميم وحدها.
عزّزتها الحكومة بالشروع في إضفاء الطابع الرسميّ والقانونيّ على الضمّ عبر تشريعات ومسمّيات جديدة، مثل إعادة تعريف الضفّة الغربيّة بـ”يهودا والسامرة”، وتحويل المرافق الإداريّة والسياحية إلى تبعيّة مباشرة للاحتلال، وتغيير ملامح المنطقة وهويّتها ديمغرافيّاً وجغرافيّاً، من خلال إعادة توزيع السكّان في مخيّمات مثل طولكرم وجنين، وجعل مدنها والقرى جيوباً منفصلة ومعزولة، وإجبار أهلها على النزوح والهجرة بتصعيد الانتهاكات ضدّهم بذريعة “إحباط التهديدات الأمنيّة”.
تفكيك السّلطة وترحيل حمَلة الجوازات
يترافق ذلك مع تفكيك السلطة على نار هادئة من خلال تجفيف موارها الماليّة وتنفيذ الاختراقات الأمنيّة وارتكاب المجازر اليوميّة وإطلاق فرق المستعربين في مناطق سيطرتها بما في ذلك عاصمتها رام الله، ومنعها من العودة إلى غزّة، ومشاريع إعلان بعض المدن كالخليل كيانات حكم ذاتيّ معزولة لوحدها، وحلّ وكالة “الأونروا” وشطب حقّ العودة وقضيّة اللاجئين معها.
ثمة تسريبات عن نيّة إسرائيليّة لترحيل الفلسطينيّين من حمَلة جوازات السفر الأردنية (وهم يقدَّرون بعشرات الآلاف) إلى الأردن، وتسفير كلّ من يحملون جنسيّة أجنبيّة إلى الخارج، ومنع المغتربين من العودة إلى الضفّة.
ما إن يتمّ تنفيذ الضمّ فعليّاً، ينتهي نظام الحكم العسكري في هذه المناطق بالكامل ويصبح تعامل المستوطنين مع الهيئات المدنيّة الإسرائيلية كما هو الحال في باقي أرجاء إسرائيل، وهو ما يعني إنهاء صفَتَي الاحتلال والاستيطان في مخالفة واضحة للقرارات الدولية والمواثيق الأمميّة والشرائع التي تحظى بالإجماع.
عندها يسقط الحلم الفلسطيني بدولة مستقلّة، ويُختزل الطموح الوطني الفلسطيني في شكل حكم ذاتيّ محدود تحت الهيمنة الإسرائيلية، وتُستبدَل هياكل السلطة بهياكل إداريّة محليّة تابعة للمنظومة المدنية الإسرائيلية، في استنساخ رديء لـ”روابط القرى” السيّئة الذكر التي أقامها الاحتلال في الخليل ونابلس في سبعينيّات القرن الماضي.
هكذا يصير اتّفاق أوسلو في خبر كان، وتُقطع الطريق أمام أيّ إمكان سياسي أو حدوديّ لقيام دولة فلسطينية، ويجعل الاعتراف الدوليّ بها رمزاً بلا تطبيق فعليّ على الأرض، مقابل ترسيخ مفهوم الهويّة اليهوديّة للدولة، وإزاحة الهويّة الفلسطينية.
تهديد الدّولة الأردنيّة
لا يقف مشروع كهذا عند حدود بل يهدّد أيضاً الدولة الأردنية ونظامها السياسي، لا سيما أنّه يجعل من “الترانسفير” أمراً واقعاً بفعل المقتلة اليومية في الضفّة وممارسات الفصل العنصري الجارية ضدّ الفلسطينيين في مجمل أرضهم التاريخية.
قد يؤدّي انهيار السلطة الفلسطينيّة، على الرغم من كلّ ما تعانيه من ضعف وترهّل، إلى فراغ سياسي وأمنيّ لا يملؤه سوى الفوضى والاضطراب. في مثل هذا المشهد، سيُدفَع الناس إلى البحث عن مخارج طوارىء، قد يكون أقربها وأسهلها العبور إلى الضفّة الشرقيّة لنهر الأردن، وهو ما سيؤدّي إلى اختلال خطير في التوازن الديمغرافي الهشّ والحسّاس داخل المملكة، ويضع عمليّاً مقولة “الوطن البديل” على سكّة التنفيذ.
ما يحدث في الضفّة الغربية يتجاوز حدود الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي التقليدي، ممثّلاً تهديداً وجوديّاً متعدّد المستويات، لا يطال الدولة الفلسطينية فحسب، بل يطال استقرار الأردن ومعادلات الأمن الإقليمي برمّتها. خطورة المشهد أنّه يتكوّن في ظلّ معادلة جديدة فرضتها حكومة نتنياهو الأكثر تطرّفاً، التي لا ترى في معاهدات السلام سوى أوراق بروتوكوليّة بلا أثر عمليّ، وفي ظلّ إدارة أميركية تضع مصالح إسرائيل في قلب سياساتها الشرق الأوسطيّة، ولو على حساب استقرار المنطقة ككلّ.
الرهان على وعود واشنطن أو على مسار تفاوضيّ عقيم أثبت عقمه منذ عقود لن يوقف الانهيار. المطلوب موقف إقليميّ صلب تُصاغ ملامحه عبر تنسيق عميق بين الدول الفاعلة عربيّاً وإقليميّاً يشكّل ورقة ضغط حقيقيّة على صانع القرار الأميركي، ويدفعه نحو إعادة النظر في مقاربته للملفّ الفلسطيني وأمن المنطقة. فالأمر لم يعُد نزاعاً على أرض فحسب، بل مسألة تتعلّق بمستقبل التوازنات الإقليمية وبقاء الدول نفسها.
أمين قمورية - أساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|