من السويداء إلى بيروت: هل تفتح واشنطن باب إعادة هيكلة الدولة السورية؟
في لحظة إقليمية دقيقة تتقاطع فيها التحوّلات الميدانية مع التبدّلات السياسية، جاء تصريح الموفد الاميركي الى سوريا، توم براك، ليشكّل إشارة فارقة في طريقة مقاربة الأزمة السورية، خصوصاً بعد أحداث العنف المتصاعدة في محافظة السويداء.
فعندما يقول براك إنّ "على السوريين التفكير في بدائل للنظام المركزي الشديد"، فهو لا يكتفي بتوصيف حالة، بل يفتح نقاشاً استراتيجياً حول إعادة هيكلة الدولة السورية، التي طالما حكمتها مركزية صارمة ارتبطت ببنية أمنية وعسكرية متماسكة في ظاهرها، لكنها مهترئة في عمقها.
طرح لم يأتِ من فراغ، بل يعكس توجهاً أميركياً متنامياً نحو استكشاف صيغ حكم بديلة تضمن استقراراً جزئياً في المناطق السورية الخارجة عن السيطرة الكاملة للنظام، في وقت بات فيه استمرار النموذج المركزي دون إصلاحات تحاكي النسيج السوري يشكّل عبئاً على الدولة والمجتمع على حدّ سواء.
فمحافظة السويداء، التي لطالما كانت بمنأى عن الصدام المباشر مع النظام، قدّمت نموذجاً مختلفاً في التمرّد المحلي المدني – السياسي، لا على قاعدة الانفصال، بداية، بل على قاعدة رفض التهميش الأمني والإداري والمطالبة بإدارة ذاتية مسؤولة.
من هنا، تأتي أهمية التصريح ليس فقط لكونه صادراً عن شخصية على تماس مع ما يرسم في غرف القرار الدولية، بل لأنه يفتح الباب أمام نقاش أوسع يتجاوز اللحظة السورية ليشمل مستقبل الدولة الوطنية في المنطقة ككل، وأثر التغييرات البنيوية فيها على دول الجوار، وفي مقدمتها لبنان، ليمثل مؤشراً على تفكير جدي داخل بعض الدوائر الأميركية والإقليمية بإعادة النظر في شكل دول المنطقة، وإعادة هيكلة النظام السياسي والدستوري فيها.
واضح ان تصريح برّاك جاء في لحظة فارقة تمرّ بها محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، التي تشهد منذ أشهر توتراً متصاعداً بين الأهالي والنظام السوري. فلأول مرة منذ اندلاع الأزمة السورية، تتبلور في السويداء حركة رفض محلي منظم، مدني ومسلّح جزئياً، لا يرفع شعارات إسقاط النظام بل شعارات فك التبعية للمركز، وإدارة شؤون المحافظة بقدراتها الذاتية.
هذا الحراك، وإن بقي ضمن الحدود الجغرافية والمجتمعية، شكّل سابقة من نوع جديد في الأزمة السورية: فالمطالبة باللامركزية باتت تصدر من مكونات كانت تُعتبر حليفة أو غير معادية للنظام، وضمن إطار وطني سوري جامع، لا انفصالي أو طائفي.
من هنا، يصبح تصريح برّاك ترجمة أو تشجيعاً لهذا الحراك، ويطرح في خلفيته سؤالاً أكبر: هل باتت اللامركزية خيارا تسوويا لا تقسيميا؟
أكيد ان برّاك لم يتحدث عن تفكك أو انفصال، بل عن "بدائل للنظام المركزي الشديد". وهذا يشير إلى مسعى لإيجاد نموذج وسطي بين الدولة الموحدة والدولة المفككة، يحفظ وحدة سوريا، ويمنح المجتمعات هامش إدارة محلية يضمن الاستقرار.
من هنا يمكن الحديث عن سلسلة من الدلالات التي حملها التصريح واهمها:
- مساءلة شرعية النموذج المركزي: اذ حين يدعو مسؤول أميركي بارز، السوريين للتفكير في بدائل عن "النظام المركزي الشديد"، فهو عملياً يعلن عن الحاجة الى تعديل النموذج الحالي في إنتاج دولة مستقرة أو متماسكة.
-تشجيع التجارب المحلية الناشئة، فالرسالة الضمنية من وراء كلامه، هي: "جرّبوا إدارة مناطقكم بأنفسكم، وسندعمكم إذا احترمتم الحدود الوطنية". هذا تحوّل في المقاربة الغربية من دعم المعارضة المسلحة إلى دعم أشكال من الحكم الذاتي المحلي الواقعي.
- تلميح نحو سيناريو فدرالي أو لا مركزي: اذ من غير المرجح أن تطرح واشنطن علناً الفدرالية كحل رسمي، لما له من حساسية في المنطقة، لكن عبارة برّاك تفتح الباب أمام نموذج من الحكم المحلي الموسّع، شبيه بالنموذج الكردي في الشمال الشرقي، أو نموذج الإدارة الذاتية في السويداء.
انطلاقا من ذلك يمكن الحديث عن الأبعاد الاستراتيجية على المستوى السوري، والتي تمثلت تاريخيا في المركزية كأداة قمع، حيث بنى النظام السوري تاريخيا سلطته على مركزية شديدة تدمج بين الأجهزة الأمنية والحزب الحاكم والإدارة، ما جعل دمشق تمارس وصاية مطلقة على كل المحافظات، خصوصاً تلك ذات التكوينات غير السنية. هذا النموذج فقد فاعليته منذ 2011، والتمسك به أصبح سبباً إضافياً للانفجار.
مع الاشارة هنا الى ضرورة الحذر في المقابل من تحوّل اللامركزية إلى محاصصة طائفية أو عسكرية في حال عدم وجود إطار قانوني ناظم.
ولكن ماذا عن الانعكاسات على لبنان والمنطقة؟
وفقا للمسار التاريخي للاحداث، من الطبيعي ان يتاثر لبنان مباشرة بهذا التحول لثلاثة أسباب:
- امتداد الطائفة الدرزية في البلدين: فاي نموذج جديد في السويداء ستكون له أصداء في الجبل اللبناني، وخصوصاً في الخطاب السياسي الدرزي، بين دعاة الانكفاء المحلي والانخراط الوطني.
- إعادة تعريف العلاقات مع سوريا: فاذا ما بدأت فعلاً عملية "تجزئة السلطة" في سوريا، فإن العلاقة بين بيروت ودمشق لن تعود محصورة بنظام مركزي، بل ستفتح احتمالات للتعامل المباشر مع إدارات محلية، خصوصاً في المناطق الحدودية.
- التوازنات الإقليمية: حيث ان كل من تركيا وروسيا ترفضان أي شكل من اللامركزية في سوريا، لأن ذلك يُضعف نفوذهما، أما الدول الخليجية والولايات المتحدة، فقد ترى في هذا المسار وسيلة لاحتواء النفوذ الإقليمي من الداخل.
بناء لما تقدم، يمكن الاشارة الى مجموعة من التحديات التي قد تعيق نقل فكرة براك الى الواقع على الارض، وابرزها:
- الخطر الأكبر هو أن يُفهم الطرح اللامركزي كتمهيد للتقسيم، ما قد يدفع النظام إلى ردود فعل أمنية مفرطة.
- غياب توافق وطني سوري على شكل الدولة الجديدة، في ظل انقسام المعارضة والموالاة والمجتمع المحلي.
في الخلاصة، لا يمكن اعتبار تصريح توم برّاك مجرد دعوة تقنية لإصلاح إداري، بل مؤشر إلى نقاش أعمق بين عواصم القرار حول مستقبل سوريا كوحدة سياسية. فما جرى في السويداء، وما يُطرح في ضوئه، قد لا يُحدث تغييرات فورية، لكنه بالتأكيد يمهد لنقاشات كبرى حول نهاية "سوريا الأسد" بالشكل الذي عرفناه. والبدائل المطروحة، سواء لامركزية أو فدرالية، تحتاج إلى نضج داخلي وتفاهمات خارجية، وإلا فإن الفوضى ستبقى البديل الوحيد للنظام المركزي المتآكل.
ميشال نصر -الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|