المياه شحيحة عند الناس: تعالوا إلى جمهورية الصهاريج المدعومة
باتت صهاريج المياه في كل المناطق مشهداً مألوفاً. الاستثناء بات قاعدة. وعوضَ أن يشتري المواطن مياهاً من الصهاريج الخاصة في حالات الطوارىء، أصبح وصول مياه مؤسسات المياه إلى المنازل هو الأمر الطارىء. وتتفاقم أزمة المياه مع تراجع مستوى المتساقطات، ليس لأنّ المياه تختفي من الينابيع، بل لأنّ الاستغلال يتفشّى، بحجّة المتساقطات. وإلى أن تلتزم الجهات الرسمية المعنية بواجباتها، من وزارة الطاقة إلى مؤسسات المياه ووزارتيّ الاقتصاد والصحّة، يبقى المواطن تحت رحمة أصحاب الصهاريج الذين يعملون تحت غطاء السياسة والفساد.
تراجع المتساقطات
تسجّل الأرقام المنتشرة في معظم دول العالم، تراجع متساقطات المياه. وتعمل الدول على تدارك نتائج هذا التراجع، منعاً لتفاقم أزمة المياه لدى المواطنين. لكن في لبنان، الوضع مختلف، فالحلّ العملي والواقعي هو زيادة الاعتماد على الصهاريج الخاصة.
هذا العام تراجعت المتساقطات بنسبة 51 بالمئة، ما خلّف "شحّاً غير مسبوق منذ سنوات"، وفق ما أكّده وزير الطاقة والمياه جو الصدّي، الذي أوضح في مؤتمر صحافي عقده لتسليط الضوء على واقع المياه. وبموجب هذا الشحّ "تراجع عدد الأيام الممطرة من 75 يوماً إلى 45 يوماً، والمياه هطلت بكثافة ولم تستطع الأرض استيعابها". والفارق في نسبة المتساقطات يتفاوت كثيراً بين سنة وأخرى. وعلى سبيل المثال لا الحصر "كانت بيروت الكبرى تتغذى بـ279 ألف متر مكعب في مثل هذه الأيام فيما هذا العام تتغذى فقط بـ154 ألف متر مكعب، ما يعني تراجع التغذية بنسبة 45 بالمئة".
وانعكس ذلك أيضاً على حجم تعبئة السدود، فبحسب الصدّي "امتلأ سد القرعون في آخر نيسان من هذا العام بـ68 مليون متر معكب، في حين أنّه يتّسع لـ220 مليون متر معكب، أيّ أنّه لم يمتلىء سوى بـ31 بالمئة من سعته. أمّا سد شبروح، فيتّسع لـ9 مليون و300 ألف متر مكعب، ولم يمتلىء هذا العام إلاّ بـ4.5 مليون متر مكعب، أي بنحو 48 بالمئة من سعته. في حين امتلأ سد القيسماني بـ150 ألف متر مكعب، فيما يتّسع لمليون متر مكعب، أي امتلأ فقط بـ31 بالمئة من سعته".
وعند الحديث عن المتساقطات، يجب التمييز بين متساقطات المياه ومتساقطات الثلوج، والأخيرة هي التي تغذي الينابيع لأنها تتسرّب ببطء إلى باطن الأرض. وإذا كانت متساقطات المياه شحيحة، في سنة ما، فلا يعني ذلك بالضرورة أنّ متساقطات الثلوج شحيحة بالتوازي. لكن هذا العام، ووفق الصدّي "كانت كميات الثلوج محدودة جداً، ما انعكس سلباً على مخزون المياه الجوفية وتفجر الينابيع.
خطط الطوارىء
في محاولة للتخفيف من وطأة نتائج تراجع المتساقطات، توجّه الصدّي بقرارات لمؤسسات المياه والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، طالباً منهم "تحمّل مسؤولياتهم وإعداد خطط طوارئ والإعلان عنها وتنفيذها". وجاء في مضمون الخطط "العمل على قمع المخالفات وإزالة التعديات. التشديد على الصيانة الفورية للأعطال وتشكيل فرق صيانة إضافية للتدخل السريع. إعادة جدولة توزيع المياه على المواطنين بشكل عادل وشفاف. تفعيل الآبار غير المستخدمة. تجهيز أبار محفورة وتأمين مصادر الطاقة بأكبر قدر لتشغيل الآبار لأطول مدة زمنية ممكنة يومياً".
وعلى المدى الأبعد "نعمل على خطوات مستقبلية تساهم في الحد من تدعيات تكرار أزمة كهذه. منها إقرار الاستراتجية الوطنية للمياه بأسرع ما يمكن بعد الانتهاء من عملية تقويمها. إعداد خطة طوارئ إستباقية لأي موسم جفاف. إطلاق ورشة إصلاحية تنظيمية لمؤسسات المياه ومصلحة الليطاني وإعادة هيكلتها وتفعيلها. تفعيل عمل الهيئة الوطنية للمياه. تركيب مؤسسات المياه عدادات على المصادر وعلى الشبكات ولدى المستهلك. بتّ مسألة السدود العالقة، أي سدود المسيلحة، جنة، بقعاتة وبلعا، التي بدأ العمل بها ولم ينجز. وضع آلية جديدة للآبار".
وإلى حين إنجاز تلك الخطط، تقوم الوزارة حالياً بـ"حملة توعية عبر وسائل الإعلام لترشيد استعمال المياه. وضع خريطة المناطق الأكثر عرضة للتأثر بالجفاف بالتعاون مع اليونسيف. إعداد مذكرة للحاجات الطارئة متل، تجهيز آبار إضافية لتخفيف وطأة الشح، تشغيلها على الطاقة الشمسية... وعرضنا هذه المذكرة على الجهات المانحة بتاريخ 6 آب 2025 للحصول سريعاً الدعم المالي اللازم. الطلب من أصحاب المحطات ترشيد استعمال المياه في المغاسل".
جمهورية الصهاريج
ما عرضه وزير الطاقة والمياه، يمكن أن يكون ركيزة حلول مستقبلية لملف المياه، لكنّه لا يعالج الأزمة الراهنة. إذ رأت مصادر في إحدى مؤسسات المياه، أنّ "مشكلة المياه أعمق ممّا تبدو عليه. وأمام وزارة الطاقة والمياه مسؤوليات كبيرة تسبق مسؤولية مؤسسات ومصالح المياه والوزارات الأخرى". فصحيح أنّ الوزارات المتعاقبة لم تحضّر خطوات تستبق بها أوقات الشح، إلاّ أنّه "يمكن للوزارة حالياً أنّ تقوم بدورها استناداً إلى قانون المياه، بدءاً من تحديد الأولويات حيال المياه التي يجب توفيرها، فالأولوية لمياه الشرب، ثم الريّ، وبعدها مياه المؤسسات السياحية وغير ذلك، وتنظيم ذلك يحتاج إلى قرار رسمي. فضلاً عن دور الوزارة في السماح بنقل المياه بين الأحواض، أي تحديد الأولوية بين الأحواض (حوض نهر ابراهيم، نهر بيروت... وغير ذلك)".
وأشارت المصادر في حديث لـ"المدن" إلى أنّه "على الوزارة الطلب من مؤسسات المياه إعطاء حوافز للمشتركين وتقسيط الأموال المتوجّبة عليهم للمؤسسات". أمّا الحديث عن قمع المخالفات "فيستدعي التساؤل عمّا إذا كانت المياه تصل إلى المشتركين حتى يخالفوا أم لا؟".
والطامة الكبرى في هذا الملف هي الصهاريج. ففي حين يُحرَم المواطن من المياه المخزّنة تحت أرضه، يجد كبار المتحكّمين بالصهاريج متنفّساً لهم بانتشال المياه وبيعها للناس. وهؤلاء "يحظون بغطاء سياسي بحسب المناطق. ورغم ذلك، من الضروري أن تتحرك وزارة الطاقة والمياه ضمن صلاحياتها". ويكتمل المشهد في هذا الملف، بتطرّق المصادر إلى "وجود موظّفين في مؤسسات المياه يقطعون المياه عن مناطق معيّنة، إفساحاً في المجال أمام الصهاريج للعمل وبيع الناس من مصادر خاصة".
ويدرك الوزير هذا الأمر، لكنّه أشار إلى أنّ "الصهاريج تعتمد على آبار صناعية مرخصة، أي تضع عدادات وتسدد ما يتوجب عليها مالياً. أما مراقبة تسعيرة الصهاريج، فمعنية بها وزارة الاقتصاد، وجودة المياه معنية بها وزارة الصحة. ونحن نسعى إلى التنسيق في ما بيننا".
بين الواقع وخطط المستقبل، يعجز "التنسيق" عن تحقيق مصلحة المواطن واستعادة حقوق الدولة بالرسوم والضرائب المفترض تحصيلها. وسط الفوضى المستمرة في هذا القطاع، تنتعش الصهاريج وتزدهر.
خضر حسان -المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|