استقلالية القضاء في الميزان... الرئاسة الأولى أمام امتحان ردّ القانون
منذ أن أقرّ مجلس النواب قانون تنظيم القضاء العدلي في 31 تموز الماضي، لم تهدأ الاعتراضات حوله، لا من داخل الجسم القضائي ولا من الأوساط الحقوقية والسياسية. فالقانون الذي كان يُفترض أن يشكّل خطوة إصلاحية نحو تعزيز استقلالية القضاء، أُقِرّ بمادة وحيدة ومن دون نقاش تفصيلي، وسط تعديلات أُدخلت في اللحظات الأخيرة، ما جعله محط انتقادات واسعة دفعت الأنظار إلى قصر بعبدا حيث ينتظر الجميع قرار رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بشأن توقيعه أو ردّه إلى المجلس النيابي استنادًا إلى المادة 57 من الدستور.
أخطاء مادية وجوهرية
بحسب معلومات "نداء الوطن"، تبيّن أن القانون تضمّن أخطاء مادية في الصياغة والتوليف، عمدت دوائر السراي الحكومي إلى تصحيحها تفاديًا لإحراج رئيس الحكومة أمام توقيع قانون مليء بالأخطاء الشكلية. لكن ما يتجاوز هذه الأخطاء، برزت ثغرات جوهرية لا يمكن لدوائر السراي الحكومي معالجتها إلا عبر العودة إلى مجلس النواب، أبرزها إسناد تطبيق عقوبات إلى مواد قانونية لا تتضمن أصلاً أي نوع من العقوبات، ما يطرح إشكالية خطيرة على صعيد التطبيق الفعلي للقانون.
اعتراضات قضائية وحقوقية
الاعتراضات لم تتأخر. مجلس القضاء الأعلى أعلن في بيانه أنّ القانون تضمّن نصوصًا "لا تتوافق مع ما هو مطلوب لترسيخ الاستقلالية الفعلية للسلطة القضائية وتأمين حسن سير العمل القضائي"، مشددًا على أن بعض مواده لا تزال تكرّس تبعية القضاء للسلطة السياسية. ووفق معلومات "نداء الوطن"، تندرج الاعتراضات الأساسية لمجلس القضاء الأعلى حول الآلية المستحدثة لتشكيل مجلس القضاء الأعلى، ومعهد الدروس القضائية، والتفتيش القضائي، وصولًا إلى اعتراضه الأساسي حول فتح باب الطعن بقرارات مجلس القضاء الأعلى.
أما نادي القضاة فقد طالب رئيس الجمهورية، بممارسة صلاحياته الدستورية وردّ القانون، معتبرًا أن النص يتضمّن "مخالفات دستورية واضحة وتناقضًا بين مواده يمسّ باستقلالية القضاء والقضاة"، فضلًا عن أنه أُقرّ بمادة وحيدة من دون نقاش وافر، في مخالفة فاضحة للأصول التشريعية.
صلاحيات النائب العام التمييزي
ومن أبرز الملاحظات المثارة على القانون ما ورد في المادة 42 الخاصة بالنيابة العامة التمييزية، والتي أُضيف إليها بند يتيح للنائب العام التمييزي الطلب من المحامين العامين أو النيابات العامة الاستئنافية وقف التحقيقات والإجراءات من دون أي مسوّغ قانوني. هذه الصلاحية، اعتبرها قضاة ومحامون مدخلًا واسعًا للتدخلات السياسية والضغوط على القضاء، بحيث تتيح للنائب العام المعيّن من قبل السلطة السياسية التحكّم بمصير دعاوى عامة حساسة، وصولًا إلى كفّ التعقبات في ملفات كبرى.
اعتراضات بنيوية
إلى جانب مسألة الصلاحيات الممنوحة للنائب العام التمييزي، برزت اعتراضات أخرى تتعلق بـ:
- تشكيل مجلس القضاء الأعلى بعد زيادة عدد الأعضاء الحكميّين المعيّنين من الحكومة من 3 إلى 4 على حساب المنتخبين الذين انخفض عددهم من 5 إلى 4، عبر إدخال رئيس معهد الدروس القضائية (شيعي حكماً)، جاء بتمريرة سياسيّة فاضحة ومريبة هدفها تكريس نفوذ شيعي داخل المجلس ومنح الطائفة الشيعية امتيازًا جديدًا لم يُمرَّر حتى في عزّ النفوذ السياسي الذي امتلكه "الثنائي الشيعي" خلال العقود الماضية. وبهذا، يكون التعديل قد أطاح بمبدأ الاستقلالية، وأخضع القضاء مجدداً لمنطق الغلبة الطائفية والمحاصصة السياسية، ويضرب بعرض الحائط التوازنات التي كانت قائمة تاريخيًا.
- فرض سنة تحضيرية إضافية لمعهد الدروس القضائية اعتُبرت شرطًا معرقلًا يطيل أمد دخول القضاة الجدد.
- التفتيش القضائي الذي جُرّد من صلاحياته الرقابية الواسعة، وحُصر دوره بالملاحقات التأديبية، ما يضعف الرقابة على المحاكم.
- هيئة التقييم القضائي المستحدثة، والتي رُبط تعيين أعضائها بمرسوم حكومي، بما يعيد الإمساك السياسي بمسار التقييم والتشكيلات.
الطعن أمام المجلس الدستوري؟
بالتوازي مع مطالبة الرئاسة الأولى بردّ القانون، علمت "نداء الوطن" أنه تم التحضير لطعنين سيقدمان أمام المجلس الدستوري فور نشر القانون في الجريدة الرسميّة: الأول من "التيار الوطني الحر" والثاني من مجموعة نواب "كلنا إرادة". المخاوف هنا تكمن في أن يؤدي أي قرار للمجلس الدستوري بإبطال القانون إلى إعادته إلى نقطة الصفر، فيما يشكّل ردّ رئيس الجمهورية، إذا ترافق مع مطالعة قانونية مفصّلة، مخرجًا دستوريًا يسمح بإعادة النظر في المواد المطعون بها حصرًا.
رهان على موقف بعبدا
أمام هذا المشهد، يبرز رهان واسع على موقف رئيس الجمهورية. فإما أن يختار مسار التوقيع بما يعني تثبيت النص الحالي بكل ما يحمله من ثغرات، أو أن يفعّل صلاحياته الدستورية فيردّ القانون ويضع ملاحظاته، فتُعاد مناقشة المواد المطعون بها، ويُكرّس بذلك مبدأ أن استقلالية القضاء لا يمكن أن تُبنى على نصوص ملتبسة أو صلاحيات استنسابية.
في الحالتين، تبقى معركة استقلال القضاء مفتوحة. فالمطالبة بسلطة قضائية فعلية، محصّنة من التدخلات السياسية والطائفية، لم تعد ترفاً، بل استحقاقًا وطنيًا يرتبط بصدقية الدولة ومؤسساتها، وبثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي على حد سواء.
طوني كرم - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|