من بيان نتنياهو إلى تشدد قاسم..سجال مَن يخطوالخطوة الأولى يعود؟!
الهجري يَهجُر سوريا
لم تعد المعضلة المستعصية بين دروز السويداء وسلطات دمشق، خلافًا سياسيًا أو حتى دستوريًا، بل صراعًا عميقًا يمسّ المصالح الوجودية للدروز الذين باتوا يرفضون رفضًا قاطعًا الشراكة في وطن واحد مع مَن يعتبرون أنهم أرادوا إبادتهم. عبّر الدروز بشكل واضح عن هذا الخيار في تظاهرة "حق تقرير المصير" في السويداء يوم السبت في 16 من الحالي، ومن المرتقب أن يرفعوا الصوت مجدّدًا السبت المقبل بتظاهرات في السويداء ومدن أوروبّية، تؤكد "حق تقرير المصير" والانفصال عن سوريا، كما طالب الزعيم الروحي لدروز سوريا الشيخ حكمت الهجري خلال رعايته اجتماعًا لتوحيد الصفوف والانضمام إلى "الحرس الوطني" في دارة الرئاسة الروحية في قنوات الإثنين.
يُمثل الموقف العالي السقف للهجري شريحة وازنة تزداد اتساعًا في أوساط دروز السويداء، لأنه يحاكي هواجسهم وتطلّعاتهم ويجسّد الوجدان المجتمعي الدرزي كما هو بلا تجميل أو مواربة. لا مجال بعد الآن للحلول الوسطية أو للمقاربات الفاترة في ظلّ أزمة وجودية تهدّد هوية جبل الدروز ومستقبل أبنائه. حتى أن الفدرالية لم تعد حلًّا بنظر أهالي المحافظة الجنوبية، بوجود نظام إسلامي في دمشق لا يؤمن بالتعددية وبحقوق الأقليات، وتاليًا استحال مطلب بني معروف جليًا: "الإنفصال التام". وهذا ما جاء على لسان الهجري الذي توجّه إلى "شرفاء العالم والدول الحرّة والشعوب الحرّة" لمطالبتهم بـ "الوقوف إلى جانبنا كطائفة درزية في الجنوب السوري لإعلان إقليم منفصل لحمايتنا إلى أبد الآبدين".
بارك الهجري "الترتيبات الجديدة المتمثلة بإنشاء "الحرس الوطني" واللجنة القانونية"، متحدّثًا عن "محنة وجود هدفها إبادتنا كطائفة درزية"، وكان لافتًا توجيهه الشكر لكلّ الدول التي وقفت مع دروز سوريا، وعلى رأسها "الولايات المتحدة الأميركية ودولة إسرائيل ودروز إسرائيل". وبعدما حسم الهجري أن "الحرس الوطني" سيدافع عن الأرض بضمانة الدول المعنية بهذا الأمر، اعتبر خبراء متابعون لهذا الملف أن تشكيل "الحرس الوطني" وتنظيمه كان ضروريًا لتوحيد الجهود العسكرية ضمن هيكلية واحدة متكاملة تضمّ كلّ الفصائل المقاتلة في المحافظة، فضلًا عن كلّ من يريد الدفاع عن السويداء في إطار "جيش محلّي" منظّم يتكفّل بحماية المحافظة من أي هجمات جديدة قد تتعرّض لها من مقاتلي عشائر البدو أو قوات دمشق، مشيرين إلى أن "الحرس الوطني" يضمّ بالفعل آلاف المقاتلين الذين كانوا عناصر في فصائل محلّية و/أو هاربين من الخدمة العسكرية من جيش النظام البائِد.
أوضح الخبراء أن المهمّات الأساسية الموكلة إلى "الحرس الوطني" تتمثل بضمان حق السويداء بتقرير مصيرها وصون حرّيتها وكرامتها، إضافة إلى مكافحة الإرهاب ومنع التهريب، خصوصًا المخدّرات، التي تعاني منها دول الجوار، ولا سيّما الأردن والخليج العربي، لافتين إلى أن "الحرس الوطني" يسعى إلى فرض ذاته كقوّة قائمة على الأرض تعمل بالتنسيق مع دول الجوار والتحالف الدولي. وكشفوا أن اللجنة القانونية العليا التي أقرّت أخيرًا لإدارة شؤون المحافظة من كافة النواحي، ستشرف على تشكيل لجان محلّية، ومجلس تمثيلي للمحافظة يضمّ ممثلًا واحدًا عن كلّ قرية وأكثر من ممثل عن المدن والقرى الكبيرة، مشيرين إلى أن المعنيين في المحافظة ينكبّون على تفعيل الأجهزة والمؤسسات الشرطية والخدماتية لتسهيل حياة الناس اليومية وتنظيمها بأفضل السبل الممكنة. كما تحدّثوا عن وجود جهود حثيثة لإطلاق وكالة أنباء محلّية رسمية تكون بمثابة "صوت السويداء" للعالم في وجه "الإعلام الرسمي الموجّه".
رأى الخبراء أن دمشق أخطأت بشكل فادح في قراءة موقف إسرائيل تجاه الجنوب السوري والمسألة الدرزية، ما جعل الأمور تتدهور بسرعة وتسلك مسار التصعيد ثمّ التعقيد، معتبرين أن القيادة الإسرائيلية تجاوزت كلّ الضغوط الإقليمية والأميركية، وتدخّلت بتوجيه "رسائل بالنار" لحكّام سوريا الجدد حين حصل الصدام الدموي مع الدروز، فرسمت بذلك خطوطًا حمرًا حول وضعية السويداء والمناطق الحدودية، التي ما زال الجيش الإسرائيلي يُعمّق توغلاته فيها، من دون أن تغلق تل أبيب باب المفاوضات مع دمشق برعاية واشنطن. وهذا بالذات ما دفع الهجري إلى شكر إسرائيل علانية، وفق الخبراء الذين يجزمون بأن للدولة اليهودية مصلحة مباشرة في استمرار دعم دروز سوريا، فيما يؤدّي زعيم دروز إسرائيل الشيخ موفق طريف دورًا محوريًا في تنسيق التعاون وحمل لواء قضية دروز سوريا وعرض مطالبهم على الأميركيين والمجتمع الدولي.
لو صلحت النوايا تجاه "الآخر"، كانت لتشكّل الفدرالية مظلّة أمان واسعة ومتينة لكافة شرائح المجتمع السوري الفسيفسائي. لكن بعد "زلزال" السويداء الذي دمّر أي فرصة لحلول تسووية عادلة بين وجهاء المحافظة ودمشق، أصبح الوجدان الدرزي في مكان آخر مختلف تمامًا. تطلق المحن المأسوية "نداء استيقاظ" عند المجتمعات المهدّدة أو المضطهدة وتجعلها تعيد حساباتها جذريًا للحفاظ على وجودها الحرّ. يحسم الخبراء أن دروز السويداء، أو غالبيّتهم، ما عادوا يؤمنون بإمكانية بناء دولة حضارية تحتضن جميع السوريين بالحدود السياسية الحالية، موضحين أن الدروز يعتبرون أن "العقد الاجتماعي" المتصدّع أصلًا بحكم فاجعة الحرب الأهلية، غدا مفكّكًا بشكل لم يعد صالحًا للترميم.
وإذ أكد الخبراء أن موقف إدارة ترامب من ماهية شكل النظام في سوريا يتغيّر رويدًا رويدًا مع الوقت لمصلحة اللامركزية، استبعدوا وجود إرادة أميركية لتغيير الحدود السياسية في المنطقة، أقلّه في المدى المنظور، بيد أنهم رأوا أن إمكانية ولادة "إقليم شبه مستقلّ" غير معترف به دوليًا تبقى احتمالًا واردًا بقوّة بدعم إسرائيلي، كما لم يستبعدوا الاتفاق على "صيغة حلّ" تعطي السويداء وضعية شبيهة بإقليم كردستان العراق وتحفظ "وحدة سوريا". وبصرف النظر عن نجاح المشروع الذي يسير به الهجري من عدمه، إلّا أن الزعيم الدرزي صار "بطلًا قوميًا" بنظر الدروز، وليس فقط دروز سوريا، بل دروز لبنان وإسرائيل والأردن أيضًا، حسب الخبراء الذين شرحوا أن صدى مواقفه الجريئة تخطّى الحدود السورية، ما قد يؤثر على المشهد السياسي الدرزي في دول أخرى حيث تأثر الدروز كثيرًا بما عصف بإخوانهم في سوريا.
تخطّت حدود "سايكس بيكو" تهديدات تمدّد "الدولة الإسلامية" وانفلاشها في العراق وسوريا منذ أكثر من عقد، وصمدت. واليوم، تختبر هذه الحدود تحدّيًا جديدًا باختيار دروز السويداء الطلاق مع سوريا، في وقت تقف فيه "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" أمام مفترق طرق تاريخي. وللصراع الإسرائيلي - الفلسطيني والإسرائيلي - العربي تأثيره الهائل على مسألة الحدود. لطالما ادّعى شاتمو "سايكس بيكو"، عن جهل أو مكر، أن الاتفاق فتّت المنطقة وقسّمها، إلّا أن الحقيقة الصارخة تجزم بأن "سايكس بيكو" لم يَنحت المشرق على مقاسات شعوبه، بل وفق مصالح القوى الدولية آنذاك، التي تقاطعت مع طموحات شعوب وتضاربت مع مشاريع شعوب أخرى. فهل اقتربت ساعة تغيير الحدود السياسية بما يتناسب والتحوّلات الإقليمية وموازين القوى الدولية، أم أن مصالح الكبار ما زالت تقتضي تمديد صلاحية الحدود القائمة؟
جوزف حبيب-نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|