الصحافة

خمس سنوات على انفجار المرفأ: العدالة معطّلة والنظام يحمي نفسه

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

على مدى الأشهر الماضية، شهد ​لبنان​ على الكثير من التغييرات والتحوّلات، التي أخذ بعضها منحى دراماتيكيًا، خصوصًا في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان، إلا أنّ الساعة السادسة وسبع دقائق من مساء 4 آب 2020، لا تزال محفورة في أذهان جميع اللبنانيين، لما تنطوي عليه من "رعب" رافق ​انفجار مرفأ بيروت​ الهائل، وترجم فيما بعد حالة "تروما" أصابت كلّ سكان العاصمة، من دون استثناء.

في تلك اللحظة المشؤومة، تغيّر المشهد اللبناني إلى غير رجعة، إذا صحّ التعبير. فالانفجار الهائل في مرفأ بيروت لم يكن مجرّد حادث عرضي، بل لحظة مفصلية كشفت انهيار مؤسسات الدولة، وتراكم الإهمال و​الفساد​، وسط غياب أي إرادة فعلية للمحاسبة، حتى لو أنّ الفرضيّات العديدة لما جرى لم تُحسَم بعد، والتكهّنات لا تزال كثيرة، وبينها من يتحدّث عن عامل خارجي دخل على الخط، يتجاوز مسألة الإهمال.

في كلّ الأحوال، فإنّ الأكيد أنّ خمس سنوات مرّت على الانفجار من دون أن يُعرف حتى الآن ما جرى على وجه الدقة، ومن دون أن يُحاسَب أحد بطبيعة الحال، حتى إنّ كلّ من تمّ توقيفهم في مراحل سابقة أطلِق سراحهم، في ظل عرقلة ممنهجة للمسار القضائي وتواطؤ سياسي واضح. فهل يمكن القول إنّ ​العدالة​ معطّلة بالكامل، أم أنالحقيقة ستظهر ولو متأخّرة، خصوصًا انّ بعض المعطيات تشير إلى أنّ القرار الظنّي بات قيد الإنجاز؟!.

قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من التوقف عند السياق القضائي والقانوني للملف منذ البداية وحتى اليوم، وبشكل خاص منذ تولّى القاضي ​طارق البيطار​ التحقيق، حيث شكّل الأخير حالة استثنائية في مشهد قضائي خاضع في معظمه للسلطة السياسية. ولذلك، وُوجه البيطاربسلسلة من العراقيل، بدءًا من دعاوى الردّ المتكررة، وصولًا إلى محاولات تنحيته بالقوة عبر تدخلات من مجلس القضاء الأعلى، وامتناع الأجهزة عن تنفيذ مذكراته.

ذروة هذه المواجهة كانت مطلع العام الحالي، حين أعاد البيطار تحريك الملف بعد تعليق دام لأكثر من عام، مستندًا إلى اجتهاد قانوني مكّنه من استئناف العمل. غير أن قراره لم يُقابل سوى بالمزيد من التعطيل، وبقيت الاستدعاءات التي أصدرها بحق شخصيات سياسية وأمنية رفيعة المستوى من دون تنفيذ فعلي، وسط ترجيحات بأن يعمد إلى إصدار قراره الاتهامي في المرحلة المقبلة، بغضّ النظر عن مدى التجاوب معه.

عمومًا، يمكن القول إنّ ملف انفجار بيروت لا يُدار وفق مسار قضائي تقليدي، بل كملف سياسي بامتياز. فالمؤسسات الرسمية، بدءًا من البرلمان الذي امتنع عن رفع الحصانات عن النواب الذين طُلبوا للتحقيق، وصولًا إلى الحكومة التي لم تتخذ أي خطوات لحماية التحقيق أو تيسيره، بدت إما عاجزة أو غير راغبة بالمضي نحو حقيقة قد تمسّ مسؤولين ومرجعيات أساسية في المنظومة.

ولا شكّ أنّ التذرّع بـ"الصلاحيات الدستورية" وبـ"الامتيازات الوظيفية" بات أشبه بجدار حماية غير معلن، يمنع أي ملاحقة فعلية، ويُخضع التحقيق إلى موازين القوى السياسية لا إلى مقتضيات العدالة. ولذلك لا يزال ملف المرفأ، بعد خمس سنوات، يدور في حلقة مفرغة، بحيثلم تُصدَر قرارات ظنية، ولم تُحدَّد المسؤوليات، ولم تُجَرِ محاكمات، وهو الأمر الذي يدفع أهالي الضحايا، أو بعضهم، يطالبون بلجنة تقصّي حقائق دولية.

في كلّ الأحوال، وبمعزل عن مدى دقة التسريبات الإعلامية حول بلوغ التحقيق خواتيمه، واعتزا المحقق العدلي إصدار قراره الاتهامي قبل نهاية العام، يمكن القول إنّ التحقيق في انفجار المرفأ لم يكن يومًا مسألة قانونية فقط، بل دخل منذ بداياته في بازار الحسابات السياسية والطائفية، فكل استدعاء، وكل إجراء، وُضع تحت المجهر الطائفي، ما أفرغ القضية من بعدها الوطني الجامع، وحوّلها إلى ساحة تجاذب إضافية.

هذا الانقسام السياسي والشعبي حول التحقيق ساهم، موضوعيًا، في إضعاف الضغط المطلوب للوصول إلى نتيجة. فمن جهة، قوى سياسية تتهم القاضي بالاستنسابية وتطالب بتنحيته، ومن جهة أخرى، شارع غاضب ومُحبط لم يعد يثق لا بالقضاء المحلي ولا بقدرة الدولة على محاسبة نفسها.

باختصار، تبدو آفاق التحقيق ضبابية في ظلّ الجمود الذي يسيطر على المساءلة. لا إمكانية حقيقية للتقدم في الملف من دون قرارات واضحة من مجلس القضاء الأعلى بشأن صلاحية البيطار، ولا من دون تعاون الأجهزة المعنية في تنفيذ مذكراته. كما أن أي تقدم يتطلب من مجلس النواب أن يرفع الغطاء السياسي – ولو جزئيًا – عن المسؤولين المدّعى عليهم، وهو أمر غير متاح في ظل ميزان القوى الحالي.

ولعلّ ما يثير الاستغراب في هذه المشهدية، هو أنّ خمس سنوات على أكبر جريمة غير حربية في تاريخ لبنان الحديث، لم تكفِ لمساءلة أي مسؤول فعليًا، كما انّ الدولة لم تُصلح ثغراتها، ولم تُطوّر أنظمتها، ولا وضعت آلية لتفادي تكرار الكارثة. حتى إعادة إعمار المرفأ لم تُنجَز، وبيروت ما زالت تحمل آثار الجريمة، ماديًا ومعنويًا. وبالتالي، فإنّ السلطة السياسية، بكل تفرّعاتها، فشلت في تقديم نموذج دولة قادرة على إجراء محاسبة.

ولعلّ الأخطر من ذلك أنّ هذا الفشل بات يبدو وكأنه جزء من منظومة منظمة لحماية الطبقة السياسية نفسها، لا مجرد عجز مؤسساتي تقني. فكل المؤشرات تدلّ على أن السلطة، بمختلف أجنحتها، ليست فقط غير مستعجلة على إنجاز التحقيق، بل ربّما تتعامل مع ملف المرفأ كقضية يجب احتواؤها، لا حلّها، في انتظار أن تُطوى بفعل التقادم أو التعب الشعبي.

على مستوى التحقيق، لا يزال القاضي البيطار يواصل عمله رغم العوائق. التسريبات الأخيرة عن قرب صدور القرار الظني لا تزال ضمن الأجواء الإعلامية، من دون أن يُعرف إذا كان البيطار سيتمكّن فعلاً من المضي قدمًا، أو ما إذا كانت مذكراته ستلقى تجاوبًا من المؤسسات المعنية، خصوصًا في ما يتعلق بتنفيذ مذكرات الجلب أو استدعاء الشخصيات السياسية والأمنية.

في ظل هذا المشهد، لا يمكن الحديث عن عدالة قريبة، بل عن أزمة بنيوية أعمق تتجاوز ملف المرفأ نفسه، وتضع البلاد أمام سؤال جوهري: هل النظام الحالي، بكل ما يتضمنه من أعراف وتسويات وحمايات، قابل للإصلاح و​المحاسبة​؟ أم أن ما جرى في 4 آب ليس سوى أحد تجليّات انهيار شامل لم يعد ممكنًا إخفاؤه؟.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا