ما الذي ينتظر لبنان؟
من المرجح أن يكون هذا الصيف ساخنًا في لبنان بالمعنى السياسي، وربما بالمعنى الأمني. قد يشهد البلد قريبًا أحداثاً غير مسبوقة، سياسية وأمنية، بطريقة دراماتيكية.
ثمة مؤشرات عديدة تفيد بذلك، بل تدفع إلى الاعتقاد بأن المرحلة التاريخية الراهنة هي في غاية الخطورة، وقد تكون الأخطر، أو من الأخطر، على الإطلاق، نظرًا لتشابك العديد، بل الكثير، من المسارات والاتجاهات، بما فيها من المحاذير والمخاطر والتعقيدات. فما الذي ينتظر لبنان؟ هل تندلع الحرب من جديد، وهي لم تنتهِ بعد؟ وهل تقع الحرب على أكثر من جبهة خارجية وداخلية؟
تفاقم الأوضاع في لبنان
يتفاقم سوء الأوضاع عامة في لبنان، بعد سنوات عدة على استفحال الأزمة، ومن ثم اندلاع الحرب، مرورًا بالحصار، كما الانهيار المالي في القطاع المصرفي والانفجار في المرفأ التجاري، حتى باتت الأحوال الصعبة، لا تُحتمَل ولا تُطاق:
الأوضاع الأمنية: لم تهدأ ولم تستقر الأوضاع في لبنان، رغم إعلان وقف إطلاق النار، حيث يستمر كل من الاحتلال والعدوان والتهديد من قبل "إسرائيل" تجاه لبنان. كذلك، يستمر التدمير والتخريب في الجنوب والضاحية الجنوبية وبعلبك، كما العمليات الأمنية والاغتيالات، ناهيك عن الاستهدافات العشوائية.
الأوضاع السياسية الداخلية: لم تنتظم الحياة السياسية، رغم انتخاب رئيس للجمهورية، وتأليف الحكومة، كما إنجاز الانتخابات البلدية والاختيارية، ومباشرة التعيينات في الدولة، والتحضير لإجراء الانتخابات النيابية. الأمور معقدة. والاشتباك السياسي إلى تصاعد وفي ذروته، في حين ينقطع الحوار الوطني، ويسقط الاتحاد الوطني بالموقف والخطاب، إبان الأزمة والحرب والعدوان والمأزق، بسبب التموضعات والاصطفافات الفئوية والجهوية.
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: لم تستقر الأوضاع الأمنية والسياسية، ولم تنتعش بعد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلد، رغم كل ما يُحكى ويُقال. فالمطلوب للبنان، حتى حينه، ثلاثة أمور: عدم الاستقرار، وعدم الانتعاش وعدم الازدهار. وهذا ما تريده "إسرائيل" ومن معها. كما أنها لن تقبل بأن يستفيد لبنان من أي آفاق أو فرص استثمارية، يجري الحديث عنها أو ترويجها أو تداولها، وذلك حتى إشعار آخر.
الأوضاع الإقليمية: قد تزيد المستجدات الإقليمية من وطأة التحديات أمام البلد، مع تسارع إيقاع التطورات الطارئة مؤخرًا وراهنًا. وهو الأمر الذي قد يزيد بالتبعية من صعوبة تقدير الموقف لاستشراف المستقبل في هذه اللحظة السياسية والتاريخية، المفصلية والمصيرية، وفي هذه المرحلة السياسية والتاريخية، المؤقتة والانتقالية. فالأحوال في المنطقة لم تستقر بعد، والمعادلات والتوازنات في الإقليم لم تنتهِ إلى صيغ نهائية.
تزايد الضغوط على لبنان
تزداد وطأة الضغوط على لبنان، وهي مرشحة لأن تزداد وتتكثف أكثر خلال هذا الصيف المقبل، وهي تتخذ أشكالاً عديدة، تسلك قنوات عديدة، وتأتي من جهات عديدة أيضًا:
الضغوط السياسية والدبلوماسية: هي الفئة الأولى من هذه الضغوط التي يتعرض لها البلد. وهي ليست جديدة أو حديثة العهد. هي تحيلنا على العديد، بل الكثير، من التصريحات أو المواقف والتسريبات والتلميحات، وربما التهديدات، والرسائل الضمنية والصريحة، من جانب الدبلوماسيات الغربية، الدبلوماسية الأميركية في الدرجة الأولى، كما الدبلوماسية الأوروبية في الدرجة الثانية، والدبلوماسيات العربية، ولا سيما الدبلوماسيات الخليجية بالتحديد، لانتزاع بعض التنازلات من لبنان أو لإلزامه ببعض الشروط أو المطالب السياسية وغير السياسية.
الضغوط الأمنية والعسكرية: وهي الفئة الثانية من هذه الضغوط التي يتعرض لها البلد. وهي باتت فاضحة في الآونة الأخيرة. هي تحيلنا على الاعتداءات المتكررة والمتواصلة من قبل "إسرائيل" على لبنان، وانتهاكاتها للقرارات الدولية ذات العلاقة، وخروقاتها لوقف إطلاق النار منذ حرب سنة 2006، إلى حرب سنة 2024، وحتى تاريخه. الأمر الذي ينال من استقرار الأمن في البلد وسلامته ويطال شعبه ودولته.
الضغوط النفسية والمعنوية: وهي الفئة الثالثة من هذه الضغوط التي يرزح تحت وطأتها البلد والشعب والرأي العام. هي تحيلنا على دور الإعلام المحلي والإقليمي، الذي يدور في فلك القوى الغربية والعربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، بالتأثير في اتجاهات اللبنانيين وتموضعاتهم واصطفافاتهم وتفضيلاتهم السياسية وغير السياسية، عبر التوجيه والتأطير، بما في ذلك تأليب الكثير من هؤلاء اللبنانيين على بعض الخيارات والرهانات السياسية والاستراتيجية، وإثارة حالة من القلق والهلع مع تفاقم الأزمة والحرب والعدوان، بل مأزق البلد.
تصاعد المسارات الإقليمية في المنطقة
ثمة مسارات ترتفع وتتقدم في الإقليم، وتفرض نفسها على المفكرة والروزنامة للدولة والحكومة والقوى السياسية والكتل النيابية في البلد، وذلك على الشكل الذي يلي:
المسار الأول: هو مسار التطويق والتطويع للمقاومة في الإقليم، ابتداء بالمقاومة في فلسطين، مرورًا بالمقاومة في لبنان، وصولًا إلى مغادرة الرئيس السابق وسقوط النظام السابق في سوريا، وليس انتهاء بالمفاوضات مع إيران على إيقاع الضغوط وكيفية التعامل والتعاطي مع طهران، من قبل الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين، بين توزيع الأدوار وتباين وجهات النظر.
المسار الثاني: هو مسار التطبيع العربي - الإسرائيلي، أو لنقل السلام بالمعنى السياسي والأمني، وهو انطلق مؤخرًا في الدفعة الثالثة منه - ربطًا بالدفعتين الأولى والثانية منه في السبعينات والتسعينات من القرن العشرين - وما زال مستمرًا ومتواصلًا، رغم التطورات الدراماتيكية والتراجيدية في المنطقة برمتها، سواء كانت التطبيع الرسمي أم التطبيع الواقعي أم التطبيع الضمني مع العديد من الأنظمة والحكومات والبلدان العربية.
المسار الثالث: هو مسار النظام الإقليمي الجديد، ومن ضمنه الترتيبات الإقليمية الجديدة، التي أخذنا نرصد ونشهد إرهاصاتها، على أنقاض ما تبقى من النظام الإقليمي القديم، بمعنى النظام الإقليمي العربي ومنظومة الأمن القومي العربي. تقود وتتزعم أميركا هذا النظام - وهو نظام هجين - ومعها "إسرائيل"، وفق رؤية مختلفة لدور الأخيرة وموقعها في المنطقة لاحقًا، وربما قريبًا، كما الخليج العربي الذي يؤسس لشراكة عريضة وواسعة، وتركيا التي حجزت لنفسها مقعدًا في قطار النظام الإقليمي الجديد.
فيبقى تحديد وترتيب ماهية وإطار ومضمون العلاقة بين أميركا وإيران، باعتبارها المدماك الأخير واللبنة الأخيرة.
تضارب الأولويات الوطنية في لبنان
ثمة أولويات وطنية، يجب تأكيدها وتثبيتها، بميزان التفكير والتخطيط لإعادة بناء الدولة، رغم التمايز والتباين بين الناشطين والفاعلين السياسيين حيالها، وذلك على النحو الذي يتبع:
الأولوية الأولى: تتمثل في العمل لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، المستمر والمتواصل، في جنوب لبنان. فالعدو الإسرائيلي يحتفظ بعدد من النقاط مؤخرًا وراهنًا بعد الحرب الأخيرة والعدوان الأخير سنة 2024. تُضاف إليها النقاط العالقة سابقًا وحاليًّا على طول الخط الأزرق بين لبنان وفلسطين المحتلة بعد التحرير الوطني سنة 2000. وكذلك، تجدر الإشارة إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، كجزء لا يتجزأ من التراب الوطني اللبناني.
الأولوية الثانية: تتجسد في العمل لوقف العدوان الإسرائيلي، المتكرر والمتمادي، في الجنوب والداخل، وصولًا إلى بعلبك، وفي الضاحية الجنوبية أيضًا. تستمر الخروقات الإسرائيلية في البر والبحر والجو، في اعتداء سافر على السيادة اللبنانية وفي انتهاك فاضح لقرار وقف إطلاق النار، أو لنقل وقف الأعمال العدائية.
الأولوية الثالثة: تكمن في السعي لإعادة الإعمار بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، كل لبنان، ولا سيما منطقة الجنوب، والضاحية الجنوبية، ومنطقة بعلبك، بما في ذلك التعويض على المتضررين، والترميم، وإعادة البناء الجزئي والكلي، كأولوية وطنية قصوى، كضرورة أو كحاجة ضرورية وطنية، ماسة وملحة، وكمسؤولية وطنية، سياسية وتاريخية، بالتنسيق والتعاون مع الأشقاء والحلفاء والشركاء والأصدقاء كافة في المنطقة والعالم، مهما كانت الضغوط والتعقيدات والعراقيل.
الأولوية الرابعة: تحيلنا على مباشرة مشروع الاستراتيجية اللبنانية للدفاع الوطني والأمن القومي من ضمن السياسة العامة للدولة والحكومة في لبنان، بما فيها تسليح وتمويل، بل تمكين، الجيش، والاستفادة من الإمكانات والقدرات والتجارب والخبرات، من زاوية مقتضيات المصلحة الوطنية العليا، للدفاع عن البلد وحمايته في مواجهة التحديات والتهديدات والأخطار الخارجية، مع الإحاطة بالدفاع الوطني، والأمن القومي، والمجال الحيوي، والعمق الداخلي الاستراتيجي والامتداد الإقليمي الاستراتيجي...
تشابك الاحتمالات المرتقبة في لبنان
هناك أيضًا سيناريوهات سياسية وأمنية وعسكرية لاحتمالات عدة، قد يشهدها البلد، وقد نشاهدها، أو نشاهد بعضها، أو نشاهد أحدها، هذا الصيف، وتتوزع على النحو التالي:
الاحتمال الأول: هو احتمال تجدد عدوان "إسرائيل" على لبنان بجولة ثانية أو جولة جديدة. هو احتمال قائم من الناحية النظرية ووارد من الناحية الواقعية، لكن ما يزال غير مرجح. قد تقوم "إسرائيل" بشن عدوان على لبنان. قد يكون محدودًا أو بالأحرى محددًا. وقد تتدحرج الأمور بعدها ككرة الثلج، أو لنقل ككرة النار. وعلى لبنان - كل لبنان - أن يتحسب لهذا الاحتمال القائم والوارد. هي مسؤولية الدولة في البلد، بحكومتها وجيشها وشعبها ومجتمعها ومقاومتها، طالما أن الاحتلال مستمر، وكذلك الحرب لم تضع أوزارها بميزان القانون الدولي.
الإحتمال الثاني: هو احتمال اندلاع الاشتباك، وربما أيضًا الاشتباكات، بين سوريا ولبنان على الحدود، وامتدادًا إلى الداخل. هذا الاحتمال يطفو إلى السطح بين الحين والآخر، بعد تغيير النظام في سوريا. وقد يرتفع منسوبه وينخفض بحسب الظروف والأوضاع في كلا البلدين والإقليم. قد يؤدي هذا الاعتقاد إلى فتح جبهة أمنية أو عسكرية ثانية في لبنان من جهة الشرق، بينما لم تنتهِ الجبهة الأولى فيه مع "إسرائيل" جهة الجنوب. وثمة من يعتقد، من هنا وهناك، في الداخل وفي الخارج، أن هذا التصعيد للتوتر قد يزيد من وطأة الضغوط على لبنان.
الاحتمال الثالث: هو احتمال الانفجار بعد الاحتقان في لبنان، قياسًا في العلوم السياسية على العلوم الطبيعية، على اعتبار أن احتقان الوضع الراهن قد يفضي إلى انفجار الساحة، ومن ثم انزلاق البلد نحو غياهب الفوضى. والمقصود هنا الفوضى الأمنية. وقد تؤدي هذه الأخيرة، بطريقة أو بأخرى، إلى وقوع المحظور، من قبيل حدوث شكل من أشكال الاشتباكات الداخلية، ابتداء بالفتنة الفئوية، وليس انتهاء بالاحترابات الأهلية. وتبقى الإشارة إلى أن سلوك البلد هذه الطريق لا يمكن أن يكون إلا بقرار كبير. لكن الفوضى حين تنشب، فهي تطال وتصيب الجميع.
المرحلة الأكثر خطورة
تبدو هذه اللحظة السياسية والتاريخية والزمنية في لبنان شديدة التعقيد والدقة والحساسية. وهي قد تكون غير مسبوقة من حيث التحديات والتهديدات والأخطار.
تشخص الأنظار وتحتبس الأنفاس خلال هذه الفترة بالانتظار لمعرفة كيفية تطور الأحوال والأوضاع، في السياسة والأمن، وكل ذلك في ضوء المستجدات الإقليمية والحسابات الخارجية أكثر منها الداخلية.
هي المرحلة الأكثر خطورة بالمقارنة مع الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، ومن قبله الحرب اللبنانية ابتداء من سنة 1975. فهل يستطيع هذا البلد الصغير المواجهة والصمود والدفاع عن الصيغة والنموذج والتجربة والكيان والتوازن والميثاق؟ أم أن مخاض التغيير من الخارج سيطيح كل شيء في الداخل؟
غسان ملحم - الميادين
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|