باريس على طريق الرياض: لا حلّ إلا بدولة فلسطينية
شيء ما أوحى لكبريات مؤسسات الإعلام في فرنسا أنّ الخطاب بشأن غزّة وفلسطين وجب أن يتغيّر. تناقل المتهكّمون الفرنسيون على تلك “اليقظة” المفاجئة على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع من قنوات البلد الكبرى تُظهر إعلاميين ومحللين وشخصيات شبه رسمية “تكتشف” الكارثة في قطاع غزّة، فتستهجن وتستنكر وتدين وترفض استمرار الحرب هناك. بل تدلّ المؤشرات على أن باريس ستلتزم بالقاعدة التي كرستها الرياض، بأن لا حلّ إلا بقيام دولة فلسطينية.
على منوال ما أظهر الأوروبيون مؤخراً، فإنّ المشكلة، وفق باريس، باتت تكمن في رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالذات بصفته المسؤول الوحيد عما غضّ الفرنسيون وحلفاؤهم جيعهم الطرف عنه منذ 7 اكتوبر/تشرين الأول 2023.
مذاك، لم يتغيّر الخطاب الرسمي لباريس في دعم إسرائيل و”حقها في الدفاع عن النفس”، على الرغم من انتشار ظواهر الغضب الشعبي الفرنسي وظهور مواقف لافتة ومثيرة عبّرت عنها أحزاب اليسار والبيئة داخل البرلمان. بقيّ خطاب الدولة مدعوماً، بأحزاب اليمين الوسط والمتطرّف، متمسكاً بتأييد إسرائيل وتجاهل مأساة الغزيين إلّا من بعض المواقف المتقطعة المتحفّظة، التي كان يعبّر عنها الرئيس إيمانويل ماكرون.
تغيّر هذا الوضع إلى درجة أنّ “الدولة العميقة” أوحت لمنابر الإعلام الكبرى إعادة التموضع وفق بوصلة جديدة. بدا خطاب المتحدثين -المعروفين بتقيّدهم بالخطّ الرسمي في دعم إسرائيل- متلعثماً، في “تكويع” واضح باتجاه انتقاد إسرائيل ومقت حربها في القطاع والدعوة إلى وقفها فوراً. بدا المتدخلون يجتهدون في إعادة تسليط الضوء على ترياق حلّ الدولتين على النقيض تماماً من موقف نتنياهو وحكومته. ولئن تبدو فرنسا، يميناً ووسطاً ويساراً، تلتحق، للمفارقة، بما يرسمه الإليزيه، فإنّ تلك التحوّلات من أعراض انعطافة فرنسية تحتاج إلى تحضير الرأي العام الفرنسي لاحتضانها.
باريس ستعترف فعلاً بالدولة الفلسطينية
149 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة تعترف بالدولة الفلسطينية. لم يخفِ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نيسان الماضي أنّ بلاده “قد” تعترف بالدولة في حزيران الحالي. غير أنّ حدّة التحوّلات في إعلام فرنسا تشي بأنّ الأمر هو أكثر من احتمال وأنّ باريس ذاهبة فعلاً إلى كسر المحرّم كإحدى أكبر دول أوروبا وأول دولة عضو في مجموعة G7 قد تعترف بالدولة الفلسطينية. كانت إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا وغيرها قد ذهبت هذا المذهب، لكن الموقف الفرنسي قد يدفع كل الاتحاد الأوروبي إلى حقبة جديدة في هذا الصدد.
تأتي خطوة فرنسا المتوقّعة متواكبة مع تحوّلات لافتة طرأت، للمفارقة، بشكل متزامن على مواقف أوروبا توحي بأنّ عصا سحرية أمرت فتمّت طاعتها. لم يعد المستشار الألماني فريدريتش ميرتس يجدُ مبرراً لاستمرار حرب غزة، فيما توجّه رئيس الوزراء العمالي البريطاني، كير ستارمر، إلى مجلس العموم متحدثاً عن أطفال غزّة، وتولى وزير خارجيته، ديفيد لامي، شنّ حملة أمام المجلس ضد “حكومة نتنياهو”، وأعلن الاتحاد الأوروبي عن مواقف منتقدة ملمّحاً إلى عقوبات قادمة.
حكاية خاصة مع القضية
لفرنسا حكاية خاصة مع قضية فلسطين. كان شارل ديغول أول من وضع لبنات السياسة الفرنسية لمقاربة الصراع بعد حرب عام 1967. ذهب فرانسوا ميتران إلى الكنيست الإسرائيلي في آذار 1982 متحدثاً عن الدولة الفلسطينية قبل سنوات من إقدامه على نحو مفاجئ عام 1989 على دعوة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لزيارة باريس. استمر اعتماد سياسة ديغولية مع جاك شيراك وجرى نقضها منذ عهد الرئيس نيكولا ساركوزي. والظاهر أنّ ماكرون يريد أن يسجّل بصمَتَه في سيرة فرنسا مع فلسطين.
فرنسا ليست بعيدة عن وثيقة السلم التي اقترحها كل من رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت ووزير الخارجية الفلسطيني ناصر القدوة في 17 تموز 2024. يحمل الأخير الجنسية الفرنسية ومتزوج من سيدة فرنسية ويسكن في فرنسا وقريب من دبلوماسية الإليزيه. تنقلت الشخصيتان بين العواصم لتسويق تلك الوثيقة وقدماها في 9 أيار في حضرة مؤتمر في القدس حضره حوالي 5 آلاف ناشط إسرائيلي وفلسطيني. جرى ذلك في عزّ حرب نتنياهو ضد غزّة وسطوة اليمين المتطرف على الحكومة والعقلية الحاكمة في إسرائيل.
تُمهّد باريس لخطواتها. تستضيف مؤتمراً في نفس الاتجاه سيحضره ماكرون كما مئات من الناشطين الإسرائيليين والفلسطينيين ما بين 11 و13 حزيران. لكن الموعد الكبير للحدث سيكون في نيويورك ما بين 17 و20 من نفس الشهر. ستترأس فرنسا والسعودية “مؤتمر حلّ الدولتين” بمشاركة دولية. وبناء على ما تجود به قريحة الإعلام الفرنسي وديباجات منابره، فإنّ ماكرون قد يعلن من هناك اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية.
مناورة ماكرون، وهو الباحث عن إنجازات خارجية لا يجدها في بلاده، ستضعه على خارطة زعماء فرنسيين سابقين تجرأوا على فعل ما لم لم تفعله العواصم الغربية الأخرى. استقبلت تلك العواصم عرفات بعد أن استقبلته باريس. وقد يمنّ ماكرون النفس بإنجاز يحسب له ولبلاده يدفع بفكرة الدولة الفلسطينية نحو مستويات جديدة.
اعتراف مشروط
ما زال ماكرون يلمح إلى اعتراف “مشروط”. بيد أنه يريد أيضاً في ترؤس بلاده مؤتمر نيويورك بالشراكة مع السعودية، أن يذهب مذهب “صديقه” وليّ عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان. استطاعت الرياض أن تفرض شروطها على العالم وعلى الولايات المتحدة وعلى رئيسها دونالد ترامب، وجو بايدن قبله، في أن “لا علاقة مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية”. اعتمد العرب في قمّة بيروت عام 2002 مبادرة، هي سعودية في الأصل، في هذا الاتجاه، ويودّ ماكرون ربما أن يضمّ فرنسا لقواعد ما فتئت المملكة تكرر معادلتها أن لا حلّ إلا بقيام دولة فلسطينية، يكتشف الرئيس الفرنسي أنه حان الوقت لتعترف باريس بها وأن الأمر “واجب أخلاقي” أيضاً.
في السياق عينه، قال مسؤول سعودي لشبكة CNN أمس إن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، سيسافر إلى الضفة الغربية، الأحد، ويخطط للقاء رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عباس.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|