الصحافة

ترامب يدشّن حقبة التحوّلات الكبرى

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لا ينفكّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مفاجأة العالم بمواقفه الصادمة. وبخلاف السلوك الكلاسيكي الذي اعتاد عليه البيت الأبيض، فإنّ ترامب الآتي من خارج القواعد السياسية الأميركية يصرّ على نهجه الخاص، ويندفع أكثر فأكثر في الأسلوب الذي يستهويه عبر تولّيه إطلاق مفاجآته الصادمة بنفسه، ومن دون اللجوء إلى البيانات الرسمية التي يصوغها في العادة خبراء السياسة والديبلوماسية.

وعلى رغم من أنّ اجتماعه كان مع رئيس الوزراء الكندي حيث المشكلات كبيرة جداً بين البلدين، إلّا أنه فجّر أول مفاجأة من خلال إعلانه عن وقف العمليات الحربية في اليمن «بعد استسلام الحوثيين» كما قال، وألحق مفاجأته هذه بمفاجأة ثانية، عندما قال بأنّه سيعلن عن «أمر كبير جداً» خلال الأيام المقبلة وقبل بدء زيارته إلى الخليج. وبدا ترامب وكأنّه يربط بين وقف النار في اليمن وبين الإعلان عن مفاجأته الجديدة والتي وصفها بـ«الإيجابية». لقد ظهر ترامب وكأنّه لا يطيق الإنتظار. لكن من الواضح أنّ إعلانه «الإيجابي» يتعلق بمفاوضات التسوية مع إيران، وثمة معطيات كثيرة تعزز هذا الإستنتاج.

فمع إطلاق العمليات الحرببة الجوية ضدّ الحوثيين أعلنت واشنطن بطرق مختلفة عن هدفين: الأول ويتعلق بتدمير القدرات الصاروخية والهجومية للحوثيين لإرغامهم على وقف استهدافهم للسفن. والهدف الثاني هو إيران التي كانت تتمنع عن الدخول في مفاوضات مع إدارة ترامب. ويومها أعلن وزير الدفاع الأميركي بيت ه‍يغسيت بوضوح، أنّ إيران هي المقصودة من العمليات على الحوثيين. واستطراداً فإنّ من المنطقي الربط بين قرار واشنطن بوقف الهجمات الجوية وبين وصول المفاوضات مع إيران إلى مراحل متقدّمة جداً. تكفي الإشارة إلى أنّ سلطنة عمان هي من تولّت الإعلان عن قرار وقف الهجمات، وهي الدولة التي تحتضن المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية، حتى حين انتقلت إلى العاصمة الإيطالية. وفي هذا السياق، كان لافتاً ما تناقلته وسائل إعلام أميركية مثل الـ«سي. إن. إن»، حول لقاءات عُقدت في مسقط بين المبعوث الخاص للرئيس الأميركي ستيف ويتكوف ووفد حوثي على هامش الجولات التفاوضية الأميركية ـ الإيرانية، وهو ما يناقض الأجواء التي أصرّ الطرف الإيراني على إعلانها دائماً بأنّ المفاوضات مع الأميركيين محصورة فقط بالبرنامج النووي.

وجاءت إشارة أميركية أخرى معبّرة جداً مع كلام نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، بوجود صفقة لإعادة دمج إيران بالإقتصاد العالمي. وبهذا الإعلان يصبح المشهد أكثر وضوحاً.

لكن ثمة جوانب أخرى تتعلق باختيار التوقيت والإخراج. صحيح أنّ ترامب نفسه ربط هذه التطورات بزيارته المرتقبة (والتي يريدها تاريخية) إلى السعودية وقطر والإمارات، إلّا أنّ هنالك جانباً آخر على درجة كبيرة من الأهمية. فالإعلان حصل بعد القصف الإسرائيلي العنيف والمدمّر الذي طاول اليمن. صحيح أنّ صاروخاً إيرانياً متطوراً استطاع اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية وأصاب مطار بن غوريون، إلّا أنّ الردّ الإسرائيلي جاء ضخماً وغير متكافئ مع ما حصل. لا بل أكثر، فإنّ نتنياهو أمر بتدمير بنى تحتية للحوثيين طاولت المرفأ البحري والمطار ومعامل الكهرباء وليس أبداً مواقع عسكرية. وإذا كانت الرسائل التي حملها الصاروخ الحوثي تطاول من جهة تحذيراً لنتنياهو «الجريح» داخلياً، ومن جهة أخرى تحضّ ترامب على الإستعجال في التفاوض وعدم إهدار الوقت بعد تأجيل الجولة التفاوضية، فإنّ ردّ نتنياهو كان يهدف إلى دفع الأمور إلى أقصى درجات التوتير، أو بتعبير أوضح، إلى قصف أو على الأقل عرقلة المفاوضات بين واشنطن وطهران. فالقصف العنيف جاء في السياق نفسه للقرار الإسرائيلي بتوسيع العملية البرية في غزة والسعي لاحتلالها. وهنا يبرز الهدف في وضوح: عرقلة المفاوضات من خلال رفع مستوى النار.

ووفق هذا المنطق، يصبح إعلان طهران من خلال الحوثيين أنّ وقف استهداف السفن لا يشمل إسرائيل، أكثر وضوحاً. حتى إدارة ترامب نفسها لم تنف هذا الخبر، ما يعني أنّها منزعجة جداً من التشويش الإسرائيلي على المفاوضات، وهي لا تمانع من خطوات تؤدي إلى لجم «حنق» نتنياهو. ومن هنا أيضاً استعجال ترامب في التمهيد عن إعلانه الإيجابي الكبير. فهو كمن يود إفهام المعرقلين وضمناً نتنياهو، بأنّ التشويش على ما يجري التفاهم عليه أصبح بمثابة التصويب على ترامب نفسه وليس على إيران.

في الواقع، فإنّ الرئيس الأميركي الذي تعرّض لنكسات داخلية عدة بسبب قراراته الجمركية، يضع آمالاً كبيرة على التعويض عن خسائره من خلال صفقة تحمل طابعاً تاريخياً وتكون شاملة وكاملة في الشرق الأوسط. ذلك أنّ حدود الصفقة ليست أبداً محصورة بالبرنامج النووي الإيراني ولا حتى بملف النزاع مع إيران، لا بل هي تشمل السعودية من خلال منحها برنامجاً نووياً للأغراض السلمية أيضاً، وترتيب تفاهمات أمنية وعسكرية تشكّل ضماناً أميركياً فعلياً للخليج العربي. كما أنّ هذه التفاهمات من المفترض أن تشمل أيضاً الملف الفلسطيني. تكفي الإشارة إلى ما أشار إليه ويتكوف نفسه حول الإعلان عن توسيع «إتفاقات إبراهيم» قريباً جداً. ومن المعروف أنّ السعودية وضعت شرطاً أساسياً لموافقتها على التطبيع مع إسرائيل بالإعلان عن حل للقضية الفلسطينية على أساس «الدولتين». وهنا تصبح دوافع نتنياهو حول إعلانه توسيع العمليات الحرببة في غزة أكثر وضوحاً. هو يريد نسف كل ما هو مطروح من خلال إعادة إشعال النار وسفك الدماء. وفي المقابل يصبح تفسير عدم شمول إسرائيل بوقف استهداف الحوثيين أكثر سهولة. والأهم «تطنيش» إدارة ترامب على هذا الإستثناء.

ولأنّ الصفقة الجاري إنضاجها واسعة وشاملة وتطاول المنطقة ولو تحت عنوان «النووي الإيراني» تلاحقت الأحداث في سوريا، إذ لا يمكن عزل الأحداث التي طاولت الجنوب الدرزي بكامله عما يدور في كواليس المفاوضات. فالنزاع يحمل تأثيرات جغرافية مستقبلية على رغم من وجود «فتائل» تفجير طائفية سريعة الإشتعال. وفي الوقت نفسه يركض الرئيس السوري أحمد الشرع ويسابق الوقت لإزالة العقوبات عن الإقتصاد السوري، قبل أن ينتقل التركيز الدولي إلى الشرق الأقصى، حيث بدأت نذر الحرب بين الهند وباكستان.

وانطلاقاً مما سبق يمكن إدراج التصعيد الإسرائيلي المستمر على لبنان من خلال الإمعان في الخروقات اليومية. لكن بيروت التي تراقب بكثير من الدقة تطورات المفاوضات بين واشنطن وطهران، تدرك أنّ ملف احتكار الدولة للسلاح سيشهد طريقه للتطبيق حال إنجاز التفاهمات الكبرى. لذلك مثلاً أراد الرئيس الفلسطيني محمود عباس زيارة لبنان بعد مغادرة ترامب للمنطقة. ذلك أنّ إنجاز التسوية الفلسطينية سيسمح بالبدء بتطبيق خطة إمساك الدولة اللبنانية بكل المفاصل الأمنية في المخيمات.

وفي المحصلة، فإنّ المشروع الذي يمسك به ترامب ويسعى إلى تحقيقه كبير جداً، وهو ما سينعكس على لبنان ويدفع به أكثر فأكثر إلى مسار جديد. وهذا «الجديد» لا بدّ من أن يطاول الطبقة السياسية اللبنانية أيضاً، حيث ستشكّل الإنتخابات النيابية بعد سنة من الآن محطة أساسية في هذا السياق. وفي المناسبة، فإنّ القراءات السياسية لنتائج المرحلة الأولى من الإنتخابات البلدية لا تتطابق مع القراءات الديبلوماسية. ففيما تسابقت الأحزاب على تسجيل انتصار هنا أو هناك، كانت الدوائر الديبلوماسية تقرأ في استنكاف شريحة كبيرة عن المشاركة في الإقتراع بمثابة استمرار معارضتها للطبقة السياسية الموجودة. وهذه الشريحة كانت سجّلت اعتراضها سابقاً من خلال انتفاضة 17 تشرين، لكن الفشل الذي طاول رموز هذه الإنتفاضة لن يدفع بهذه الشريحة للعودة إلى ملاذات الأحزاب بل للإنكفاء مجدداً. ما يعني أنّ هذه الشريحة الكبيرة لا تزال تطالب بالتغيير على أن يشمل «التغييريين» أيضاً هذه المرّة. وأما التفسير بأنّ انخفاض نسبة الإقتراع مردّه إلى حالات السفر فهو مدعاة للسخرية. إذ هل يمكن أن تقتصر الهجرة على مدينة من دون أخرى؟ بمعنى أنّ نسبة الإقتراع كانت مرتفعة في عدد محدود من المناطق التي شهدت مواجهات شاملة وحامية، وهو ما ينقض هذا التفسير. وهذا الإستنتاج يطاول كافة الساحات.

وثمة ملاحظة ثانية لها علاقة بالحجم الجديد للجماعات الإسلامية على الساحة السنّية التي تعاني من فراغ قيادي. وربما من هذه الزاوية أراد الرئيس سعد الحريري إعادة التذكير بحضوره ولو من باب أحداث السابع من أيار. لكن المحظور الكبير لا يزال قائماً عليه.

هي حقبة التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، مع العلم أنّ الحقبة لا يجري قياسها بالأشهر بل بالسنوات.

جوني منير -الجمهورية

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا