شيخ العقل يلتقي السفير الفرنسي مطالبا بضمانات لتعزيز ثقة السوريين بدولتهم
ثلاثة أبعاد لأول انتخابات بعد "حرب الإسناد"
تصحّ في بعض المحطات التاريخية مقولة ما قبل وما بعد، حيث تشهد تحولات جذرية تؤدي إلى سقوط الستاتيكو الذي كان قائماً، وتنقل مجرى الأحداث ومسارها باتجاهات أخرى مختلفة تماماً بمعزل عن نتائجها ونهائياتها، ومن الأمثلة على ذلك أحداث 11 أيلول 2001 وإسقاط الرئيس صدام حسين وخروج جيش الأسد من لبنان وصولاً إلى حربي "الطوفان" و"الإسناد".
ويصح في "حرب الإسناد" القول إن ما قبلها غير ما بعدها، فما قبلها كان يُمسك "حزب الله" بالحدود وقرار الحرب ويسيطر على الأرض ويشنّ الحروب متى يشاء ويتمدّد على جسم الدولة وخريطة البلد كالأخطبوط، وما بعدها فقد سيطرته على الحدود والأرض وقرار الحرب ولم يعد بإمكانه توريط البلد بالحروب، وبدأت الدولة للمرة الأولى منذ إقرار "وثيقة الوفاق الوطني" تستعيد دورها ومقوماتها وسلطتها واحتكارها وحدها للسلاح.
وفي هذا المناخ بالذات تجرى الانتخابات البلدية والاختيارية في جولاتها المتتالية، وهي أوّل انتخابات تحصل في لبنان بعد "حرب الإسناد"، أي بعد الحرب التي أفقدت "الحزب" دوره العسكري الذي حال دون قيام دولة فعلية، وأهمية أوّل انتخابات بعد الإسناد تكمن في الآتي:
أولاً، لم يعد التحدّي الأساسي في لبنان من طبيعة وجودية خلافاً للواقع الذي كان قائماً منذ سقوط الدولة في العام 1975، إذ لا أولوية تعلو على أولوية الوجود والحياة الحرة والكريمة، ولا أولوية تعلو على أولوية وجود دولة تتحمّل مسؤولياتها في إدارة البلد تطبيقاً للدستور وحماية التعدُّد القائم وتوفير الأمن والأمان للمواطنين، فيما كان الشعور دوماً بالغلبة في ظل وجود فريق يخيِّر الناس بين العيش بشروطه، وبين الهجرة، وشروطه تعني الحروب والفوضى والإلغاء والقمع وتغييب المؤسسات(...).
وأظهرت الأحداث منذ 50 عاماً أن كل ما بني تمّ تدميره، لأنه كالحمل خارج الرحم، فلا بناء خارج دولة فعلية، وهذا فضلاً عن شعور شرائح واسعة من اللبنانيين بأنها مهددة وجودياً، أي أن استمراريتها في هذا البلد مهددة في ظل مشروع توسعي يُمسك بقرار الدولة ويتمدّد على الأرض بهدف تغيير الوقائع الديموغرافية ليتمكّن مع الوقت من إحكام سيطرته على البلد إلى الأبد.
وعلى رغم أن الانتخابات البلدية والاختيارية تختلف عن الانتخابات النيابية التي تنبثق منها السلطة وإدارة البلد وقيادته، ودور هذه الإدارة أساسي جداً بين قيادة تسلِّم قرار البلد لفريق الأمر الواقع، وبين قيادة تقود البلد تطبيقاً للدستور والميثاق، إلا أنه على رغم ذلك فإن اهتمامات الناس في هذه الانتخابات تبدّلت من وجودية إلى إنمائية وتطويرية وتحديثية، والانقسام الوطني الفعلي لم يعد بين دولة ودويلة بعد أن زالت مقومات الدويلة، ولا يفيد بشيء أن يتمسّك أصحاب مشروع الدويلة بمشروعهم طالما أن إمكانات فرضه لم تعد متوافرة.
ثانياً، لم يعد الانقسام داخل البيئة المسيحية بين الخط المؤيد لمحور الممانعة، وبين الخط المسيحي التاريخي الذي يريد دولة وحياداً وشراكة فعلية، لا صورية، تحترم التعدُّد بعيداً عن محاولات ضربه، وبالتالي للمرة الأولى منذ العام 2006 ينتقل الانقسام المسيحي من الانقسام العمودي بين خطّين وتوجّهين، إلى التنافس الطبيعي تحت سقف الدولة.
وليس تفصيلاً أن الخط الوطني التاريخي للمسيحيين بقي موحداً بأكثريته الساحقة قبل الحرب وإبانها وبعدها إلى حين توقيع "التيار الوطني الحر" التفاهم مع "حزب الله"، فأخذ المسيحيين إلى خيارات لا تشبه تاريخهم ولا تطلعاتهم ولا رؤيتهم وتهدِّد وجودهم واستمراريتهم، ولكن بعد أن اندحر المحور الممانع لم يعد من خيار إلا الدولة، إلا أن كلفة هذا الانقسام كانت باهظة، إنما من الضروري التمييز بين التعدُّد داخل البيئة المسيحية، وهو أمر صحي للغاية ويجب تحصينه وتعميمه، وبين الانقسام حول رؤى وطنية، وقد ظهّرت الانتخابات هذا التعدُّد تحت سقف الخط الوطني التاريخي للمسيحيين الذي شكلّت "القوات اللبنانية" رأس حربته.
ثالثاً، إن زوال الخطر الوجودي الذي يهدِّد اللبنانيين ودولتهم حوّل ويحوِّل الانتخابات البلدية والاختيارية من انتخابات تنافسية بأبعاد سلطوية أو "وجاهاتية"، إلى انتخابات بأبعاد إنمائية حقيقية، لأنه لم يكن بالإمكان تحقيق الإنماء المطلوب في ظل دولة شكلية "يعشعش" فيها الفساد وقرارها خارجها، فيما تطوير العمل البلدي أصبح ممكنا مع استرداد الدولة دورها وقرارها، خصوصاً أن البلديات هي كناية عن حكومات محلية، وفي ظل وعي لبناني رسمي وشعبي بأن اللامركزية هي المعبر الإلزامي للإنماء والتخلُّص من الحرمان.
ما يحصل منذ انتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف الرئيس نواف سلام وتأليف الحكومة كان يجب أن يحصل بعد انتهاء الحرب، ولكن اليد الأسدية ومن ثم الخامنئية حالتا دون ذلك، ما جعل البناء الذي كان قائماً مجرّد بناء شكلي وصوري طالما أن قرار الدولة كان مخطوفاً ومصادراً، ولكن بعد 35 عاماً من التأخير يعاد اليوم بناء مداميك الدولة في قطاعاتها كلها، وصولاً إلى أوّل انتخابات تجرى بعد "حرب الإسناد" التي بدّلت جذرياً في ثلاثة أبعاد: البعد الوطني حيث لم يعد خطر الدويلة يهدِّد ما تبقى من الدولة؛ البعد المسيحي الذي انتظم بأكثريته الساحقة تحت سقف الخط الوطني التاريخي للمسيحيين؛ البعد الدولتي المؤسساتي حيث استعادت الدولة دورها الخارجي والحدودي والناظم لإدارة البلد، وتحوّلت الانتخابات مع هذا التبدُّل البنيوي إلى أداة تغيير حقيقية قادرة على تطوير حياة الناس وتحديثها، ونقل لبنان من الدولة الفاشلة، إلى الدولة الناجحة.
شارل جبور -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|