الصحافة

عذرًا… الميلاد ليس للمسيحيّين فقط

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

إنّ ميلاد السيّد المسيح ليس حدثًا إيمانيًّا محضًا، بل منعطف كونيّ حدَّد الزمان نفسه، ما قبل الميلاد وما بعده. فهو لم يغيّر روزنامة التاريخ فحسب، بل أعاد تعريف معنى الإنسان، والزمن، والحضور الإلهيّ في العالم. لذلك، لا يمكن اختزاله بمناسبة طقسيّة تخصّ جماعةً دينيّةً بعينها، ولا حصره في حدود الانتماء المسيحيّ الضيّق، لأنّه في جوهره حدثٌ إنسانيّ شامل، موجَّه إلى كلّ إنسان، أيًّا كان دينه أو ثقافته أو جغرافيّته.

في الميلاد، لم يُولد الطفل الإلهي في قلب الكنيسة، بل الكنيسة وُلدت من قلبه. لم يولد في قصر سلطةٍ دينيّة أو دنيويّة، بل في هامش التاريخ، لكي يكون هو معنى التاريخ. وُلد في مذودٍ مفتوحٍ على السماء والأرض معًا، كأنّ الرسالة منذ البدء أرادت أن تقول: هذا الحدث ليس لجماعةٍ بعينها، بل للعالم كلّه.

حين أعلنت الملائكة البشارة السارّة: "المجدُ لله في العُلى، وعلى الأرض السّلام، وبالناسِ المسَرّة"، لم تكن تنشد ترنيمةً خاصّة بالمؤمنين وحدهم، بل كانت تؤسّس لفلسفة جديدة في فهم العلاقة بين السماء والأرض، بين الله والإنسان. فالمجدُ الحقيقيّ لله لا يتحقّق بالانعزال والتقوقع، بل بالانفتاح و​السلام​.

والسلام هنا ليس مجرّد غياب الحرب، كما شدّد قداسة ​البابا لاون الرابع عشر​ خلال زيارته إلى ​لبنان​، بل هو حضور العدالة، وكرامة الإنسان، ومصالحة المختلفين، وثقافة الحوار. عندها فقط، يصبح السلام تعبيرًا عن مجد الله في التاريخ.

بهذا المعنى، يصبح الميلاد إعلانًا فلسفيًّا إنسانيًّا بقدر ما هو لاهوتيّ: الله لا يُمَجَّد إلاّ حين يَسْلَم الإنسان، وحين يشعر كلّ إنسان أنّ له مكانًا تحت سماء هذا العالم. ويتحقّق السلام أكثر عندما نعيش أخوّةً الإنسانيّة تحت سماءٍ واحدة، وندرك أنّ لاهوت الميلاد ليس لحظة عاطفيّة، بل مسيرة حجّ تمتدّ من المذود إلى الصليب، ومن الصليب إلى القيامة، حيث يكتمل معنى الخلاص.

ومن أعمق الدلالات الكونيّة للميلاد، مجيءُ المجوس من المشرق. لم يكونوا من شعب العهد، ولا من الدائرة الدينيّة القريبة، بل حكماء وباحثين عن المعنى، عن الحقيقة الضائعة في قلب العالم. قرأوا السماء بلغتهم، وساروا وراء نجمٍ قادهم إلى طفلٍ لا يملك سلطةً ولا جيشًا، لكنّه بميلاده أعلن بداية عهدٍ جديد.

المجوس هم صورة الإنسان الباحث، أيّ إنسان. هم شهادة أنّ طريق الله لا يمرّ فقط عبر النصّ، بل أيضًا عبر العقل، والتأمّل، والضمير. وفي استقبال الطفل لهم، قبل الرعاة وقبل الملوك، رسالةٌ واضحة، أن الآخر ليس تهديدًا، بل شريك في اكتشاف الحقيقة.

في خضمّ القرن الواحد والعشرين، عصر الذكاء الاصطناعي، وتسارع التكنولوجيا، والخوف من الآتي، يدعونا الميلاد إلى استعادة فلسفة اللقاء، والحضور، والعلاقة الحقيقيّة بين الإنسانٍ والإنسان. طفل بيت لحم لا يقيم حدودًا، بل يهدمها؛ لا يرفع جدارًا، بل يفتح ذراعيه؛ لا يفرض ذاته، بل يقدم ذاته طفلًا.

وهنا، يصبح الميلاد دعوةً إلى إعادة التفكير في معنى الإيمان ذاته: إيمانٌ لا يقود إلى الانغلاق، بل إلى الانفتاح؛ لا إلى الإقصاء، بل إلى الاعتراف؛ لا إلى احتكار الحقيقة، بل إلى السير معًا نحوها.

من قلب لبنان، هذا الوطن الكبير في تنوّعه ورسالته، يكتسب ​عيد الميلاد​ فيه معنى مضاعفًا. فقد سبق لبنان كثيرين في الاحتفال بالميلاد مسيحيّين ومسلمين معًا، واعتمدت الدولة عيد بشارة السيّدة العذراء عيدًا وطنيًّا. فالميلاد في لبنان هو لقاء بامتياز، لا ساحة صراع، إنما نجم هداية، لا نقطة اشتباك.

وفي هذا السياق، تكتسب المبادرات الأمير محمد بن سلمان ولي عهد السعودية التي تسمح للمسلمين بمعايدة المسيحيّين بُعدًا إنسانيًّا عميقًا، يؤكّد أنّ الأديان، في جوهرها، وُجدت لخدمة الإنسان لا لاستعماله أو تقسيمه.

في عالمٍ تكثر فيه الحروب والانقسامات، يبقى الميلاد تذكيرًا بأنّه دعوة مفتوحة للقاء الروحيّ والأخلاقيّ، وأنّ يسوع الذي وُلد إنسانًا يرفض أن تُستَعمل الإنسانيّة باسم الدين.

عيد الميلاد، في جوهره العميق، هو عيد الإنسان، كلّ إنسان، لأنّ الكلمة صار بشرًا وحلّ بيننا، واتّخذ إنسانيّتنا مسكنًا له. هو عيد الكرامة التي عادت، والسلام الذي يُبنى، والرجاء الذي يتجدّد.

الميلاد هو فجر إلهيّ، ولقاءٌ بين الأرض والسماء. فكيف يمكن لمن يحتفل بميلاد الرب يسوع أن يضع جدارًا بينه وبين أخيه الإنسان؟.

الميلاد هديّة السماء لنا، ولذلك نتبادل هدايا المحبّة، تعبيرًا بشريًّا عن الامتنان لهديّة الله. فلنتبادل السلام، لأنّ الإنسان لا يزال يستحقّ الخلاص، ولنحتفل معًا بمستقبلٍ إلهيّ–إنسانيّ، يكون فيه المجد لله لأنّ السلام صار حقيقةً بين البشر.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا