اختبارٌ مزدوج أمام سوريا: مسألة الأقليّات... وإسرائيل
مع اقتراب نهاية العام الحالي، يترقب السوريون ما سيحمله العام المقبل من تطوّرات على مستوى مسار النهضة بالبلاد الذي أطلقه الرئيس السوري أحمد الشرع إثر إطاحته بشار الأسد. تمكّن الشرع خلال عامه الأول في الحكم من إدخال تغييرات جذرية في مؤسّسات الدولة، بالإضافة إلى التقرّب من المحور الغربي - العربي، والتخلّص من النفوذ الإيراني، ورفع العقوبات الدولية، خصوصًا عقوبات "قانون قيصر" الأميركية.
تتيح هذه الإنجازات المهمة فرصًا استثنائية بالنسبة إلى سوريا سيسعى الشرع إلى الاستفادة منها خلال العام الجديد، لكن في الوقت عينه، لا تزال التحدّيات الداخلية والخارجية التي لم يحلّها الشرع هذه السنة، تشكّل عائقًا أمام استثمار الفرص المتاحة، وستبقى كذلك طالما تمسّكت دمشق بمقاربتها غير المفيدة للملفات الشائكة.
تتصدّر مسألة إعادة توحيد سوريا واندماج الأقليات العرقية والدينية في الدولة الجديدة، الأزمات التي يعاني منها الحكم الجديد. تصرّ دمشق على إعادة إحياء الدولة المركزية، فيما يطالب الكرد والدروز والعلويون بحكم لامركزي، وقد أدّى هذا التناقض في الرؤى حول "سوريا الجديدة" ومحاولة دمشق فرض تصوّرها بالغصب، إلى تعميق الهوّة بين إدارة الشرع الفتية والأقليات، بشكل يصعب جسره.
انطلاقًا من ذلك، تعسّر تنفيذ "اتفاق آذار" بين "قسد" ودمشق، رغم أنه كان من المقرّر أن ينتهي مع نهاية هذا العام. يرفض الكرد في شمال وشرق سوريا تذويب "قسد" في الجيش التابع للسلطة المركزية ودخول قوات دمشق إلى مناطقهم، في حين يعتبر الشرع وأنقرة أن هاتين المسألتين تشكلان خطين أحمرين. لذلك، تعسّر تنفيذ "اتفاق آذار" بسبب الخلاف حول معنى وكيفية الاندماج، وبدأت الاشتباكات المتقطعة بين "قسد" وقوات دمشق وفصائل موالية لتركيا تشتدّ حدّة ووتيرة أخيرًا، فيما حذر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان "قسد" الخميس من أن صبر بلاده بدأ ينفد، مطالبًا الكرد بتنفيذ تعهداتهم لدمشق من دون تأخير، لكنه أكد في الوقت عينه أن أنقرة لا تؤيّد استخدام القوة العسكرية مجدّدًا.
وسط هذه الأجواء، كشفت وكالة "رويترز" أن دمشق أرسلت خلال الأيام القليلة الماضية اقتراحًا إلى "قسد" عبر الأميركيين، يقضي بأن تعيد "قسد" تنظيم مقاتليها، البالغ عددهم حوالى 50 ألفًا، في ثلاث فرق رئيسية وألوية أصغر، ما دامت ستتنازل عن بعض سلاسل القيادة وتفتح أراضيها لوحدات الجيش السوري الأخرى، إنما قلّلت مصادر عدة للوكالة من احتمالات التوصّل إلى اتفاق شامل في اللحظات الأخيرة قبل انتهاء المهلة المقرّرة لتنفيذ "اتفاق آذار" في نهاية العام، مؤكدة الحاجة إلى مزيد من المحادثات.
تسعى أميركا إلى إنهاء ملف اندماج "قسد" بشكل يرضي دمشق وأنقرة، لكنها تصرّ بشكل حاسم على أن يحفظ أي اتفاق حقوق وسلامة حلفائها الكرد وقدراتهم على محاربة التنظيمات الإرهابية. بناء على ذلك، ضبطت دمشق وأنقرة النفس، وامتنعتا عن شن حرب على "قسد"، بينما يستمرّ الدعم الأميركي لـ "قسد" ويتعزز على كافة الأصعدة، حيث أفاد "المرصد السوري" الخميس بتحرّكات مكثفة لقوات "التحالف الدولي" في مناطق شمال وشرق سوريا منذ بداية هذا الشهر، شملت تعزيزات عسكرية ولوجستية، كما شهدت المنطقة تدريبات عسكرية ودوريات استطلاعية مشتركة مع "قسد"، بالإضافة إلى عمليات مشتركة لاستهداف خلايا تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي.
إصرار دمشق وأنقرة على شروطهما التعجيزية حول اندماج "قسد"، وتمسّكهما برفض أي صيغة حكم لامركزية تحفظ حقوق الكرد وتصون خصوصيتهم، يرسخان حال التقسيم الموجود حاليًا في البلاد، ما يشي باستمرار مسار التصعيد من دون أن يصل إلى حرب مفتوحة طالما بقي الدعم الأميركي لـ "قسد"، الأمر المرجّح، خصوصًا بعدما سطع نجم "داعش" مجدّدًا إثر قيام أحد عناصر قوات دمشق المنتمي إلى التنظيم أو المتعاطف معه، بقتل جندييْن ومترجم أميركيين خلال دورية أميركية - سورية مشتركة في مدينة تدمر السبت الماضي. رغم محاولة دمشق التقليل من وطأة الحادث، أثار الهجوم شكوكًا حقيقية حول مدى قدرة الحكم الجديد على تطهير قواته من العناصر الجهادية المتطرّفة التي لا تضرّ جهود الشرع الآيلة إلى ترسيخ شرعية دولية لنظامه فحسب، بل تفاقم أيضًا هواجس الأقليات من الاندماج في الدولة الجديدة.
توازيًا، شكّلت مسألتا العناصر المتطرّفة ضمن قوات دمشق وتعامل الحكم الجديد العنيف مع الأقليات، المعضلتين الرئيسيتين اللتين أعاقتا التوصّل إلى اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل خلال هذا العام، رغم المحادثات المباشرة العديدة التي عقدتاها برعاية أميركا. تشترط إسرائيل أن يضمن أي اتفاق مع إدارة الشرع حماية دروز سوريا وخلق منطقة منزوعة السلاح من دمشق حتى الجولان، بينما يطالب الشرع بالعودة إلى اتفاق فض الاشتباك للعام 1974 وانسحاب إسرائيل من كافة المناطق التي سيطرت عليها بعد سقوط الأسد. تتوجّس إسرائيل من العناصر الجهادية التي جرى دمجها بسرعة في الجيش السوري الجديد، الأمر الذي يشكل أحد أبرز الأسباب الذي يدفعها إلى التمسّك بإقامة منطقة عازلة في جنوب سوريا، خصوصًا بعد هجوم 7 أكتوبر والتغيير الجذري الذي أحدثه في الاستراتيجية الدفاعية الإسرائيلية.
بالإضافة إلى ذلك، ما زالت دمشق تحاصر السويداء منذ مجازر "تموز الأسود"، حسب وصف الرئيس الروحي لدروز سوريا الشيخ حكمت الهجري، الذي جدّد هذا الأسبوع تمسّكه باستقلال محافظة السويداء كليًا عن سوريا، معربًا عن شكره لإسرائيل على دعم قضية الدروز السوريين. وأكد أن "الحرس الوطني" بات يشكل جيش "جبل باشان"، وهو الاسم التوراتي الذي أصبح يطلقه على السويداء، في حين يتابع الرئيس الروحي لدروز إسرائيل الشيخ موفق طريف مساعيه لتأمين حماية دولية لدروز سوريا، عبر ممارسة الضغوط على القيادة الإسرائيلية وعقد اجتماعات مع دبلوماسيين غربيين لنقل صوت إخوانه السوريين إلى عواصم القرار.
لم يكن الهجري يطالب بالانفصال بعيد سقوط الأسد، بل كان يدعو إلى حكم لامركزي، إلّا أن المجازر الطائفية التي فتكت بالدروز في السويداء وأشرفية صحنايا وجرمانا، والتحريض الطائفي الذي استهدفهم على كافة الجغرافيا السورية، أوصل أبناء الطائفة في السويداء إلى الاقتناع بأنه لا يمكن التعايش تحت أي صيغة وحدوية مع ثقافة إقصائية شمولية. لذلك بات الانفصال بالنسبة إليهم ضرورة وجودية، ما يعقد قدرة دمشق على التوصّل إلى حلّ وسط مع الدروز من أجل الحفاظ على وحدة سوريا والتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل يوقف تمدّد وترسيخ وجود الأخيرة في الجنوب السوري.
سيصعب حلّ التحدّيات الداخلية والخارجية التي تواجه الحكم السوري الجديد خلال العام المقبل في حال تمسّكه بإعادة إحياء الدولة المركزية، إذ إن ذلك سيؤدّي إلى استمرار تعثر اندماج الأقليات وسيبقي الاتفاق الأمني مع إسرائيل بعيد المنال، ما يعني بقاء سوريا مقسّمة عمليًا وعدم انسحاب إسرائيل من جنوب البلاد. إن أرادت دمشق استثمار الفرص الحيوية التي تمكّن الشرع من خلقها خلال عامه الأول في الحكم، فسيتعيّن عليها تخطّي مقاربتها الشمولية لمسألة النظام السياسي والتفاوض مع المكونات السورية على صيغة حكم لامركزية تحقق الاستقرار المطلوب للنهضة بالبلاد وإعادة إعمار ما هدّمته الحرب.
أنطونيو رزق-نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|