60% من الأبقار مريضة والحليب إلى النصف... فهل أهملت الوزارة الإجراءات الوقائية؟
ثروة لبنان الحيوانية ليست بخير، ومربوها في "مصيبة كبيرة". فمرض الحمى القلاعية الذي تظهر أعراضه في الفم، أو على الأظلاف والحوافر، أو بشكل أخطر على الضرع والحلمات، شخص في المزارع، منذ أكثر من شهر. وجزء كبير منها يعاني انخفاضًا بالشهية، تراجعًا في إنتاج الحليب، ونفوقًا بعجولها الصغيرة. وهذه تداعيات "العترة الجديدة" أو متحور جائحة SAT1 التي لم تكن معروفة سابقًا إلا في أفريقيا، وتحوّلت اليوم جائحة عالمية، تهدد الثروة الحيوانية في أكثر من ناحية، وخصوصًا بسبب حدتها وسرعة انتشارها.
عدوى الحدود المتفلتة؟
في 7 كانون الأول الجاري، أعلنت وزارة الزراعة رسميًا عن رصدها حالات من الحمى القلاعية في لبنان. وقد جاء ذلك بعد أشهر من أزمة عالمية بلغت ذروتها في دول المنطقة، مع تسجيل خسائر فادحة لحقت بمربي الابقار في منطقة نينوى بالعراق، ومن ثم في بغداد، قبل أن تصل إلى مصر، تركيا، والأردن. وسط تكتم حول إمكانية وصول العترة إلى سوريا أيضًا، والتي تشتبه السلطات اللبنانية بأنها مصدر العدوى اللبنانية عبر المعابر غير الشرعية.
تحذيرات بقيت حبرًا على ورق
استشعرت وزارة الزراعة بخطر العدوى المحيط بلبنان منذ شهر نيسان الماضي. فأصدرت بيانًا تحذيريًا عالي النبرة، دعت فيه المربين إلى تعزيز الأمن الحيوي وتشديد إجراءات الوقاية. لكن التحذير بدا يومها أقرب إلى رفع عتب منه إلى خطة مواجهة حقيقية. لم تُطلق الوزارة حملة تلقيح وطنية، ولم يتسن لها تأمين اللقاح للعترات الجديدة المتداولة، ولم تُفعَّل الرقابة على حركة المواشي. بقي البرنامج الرسمي للتحصين كما هو، رغم أن المختبرات المحلية كانت تتحدث عن ظهور "عترات" لا يغطيها اللقاح المتوفر في لبنان. بينما تركت الحدود خلال تلك الأشهر، مشرّعة أمام التهريب، بمقابل استمرار تدفق شحنات الأبقار من الخارج، وبعضها من دول موبوءة.
كارثة تشمل 60 بالمئة من أبقار لبنان
لدى وصول الفيروس إلى لبنان، تحفظت وزارة الزراعة عن الإعلان عنه، حماية كما تقول أوساطها، لسمعة القطيع اللبناني الذي قد يتأثر من جراء الإصابة بالحمى على أكثر من صعيد. إلا أنه مع توسع رقعة تفشي الحمى في المزارع، لم يعد هذا التكتم ممكنًا أو مفيدًا.
اضطرت وزارة الزراعة في بيان لاحق إلى البوح عن "عترة جديدة في المنطقة"، وعن "تحديد البؤر المصابة بالفيروس"، و "تحصينات للعترات التي كانت موجودة" وعن "تحقيقات حول التهريب"، وعن "إرسال العينات إلى مختبرات دولية". لكن كل ذلك جاء متأخرًا. فالفيروس انتشر بالفعل، والمزارعون بدأوا يواجهون خسائر موجعة، تترافق مع انهيار في القيمة الاقتصادية للقطعان المصابة.
من المسؤول؟
يتحدث عضو المجلس الأعلى للزراعة الدكتور خير الجراح، عن "كارثة" حلت بالقطاع. مشيرًا إلى أن 60 إلى 70 % من الأبقار مصابة حاليًا بالحمى. مع تراجع بكميات إنتاج الحليب بنسبة 50 %، وإمكانية لتوسع دائرة إصابتها بشكل أكبر.
فلماذا هذا التأخير في إطلاق برنامج التحصينات الممكنة؟ ومن هي الجهة المسؤولة عن ذلك؟
اختصر وزير الزراعة نزار الهاني الحديث في لقاء جمعه بمربي الأبقار في بلدة غزة في البقاع الغربي صباح يوم الجمعة الفائت، وهي من أولى البلدات وأكثرها تأثرًا بالجائحة منذ ظهورها في لبنان. وبمواجهة غضب المربين في خضم ما سماه "بالمصيبة" التي حلت بالقطاع، قال الهاني إن "الوزارة هي المسؤول الأول عن هذا القطاع وكل القطاعات الزراعية". من دون أن يعني ذلك اعترافه بأن الوزارة قد تأخرت في اتخاذ الإجراءات اللازمة. فالوزارة "مش نايمة" كما قال، ولكن الجائحة عالمية أولًا، وهناك ضغوطات على الشركات التي تنتج اللقاحات من مختلف أنحاء العالم، ولبنان لم يكن أولوية بالنسبة لها لأنه لم يكن قد أصيب بالعدوى سابقًا. علمًا أن الوزارة كما كُشف خلال الاجتماع أجرت مناقصة لإحضار اللقاح منذ شهر آب الماضي، وتهدف إلى توزيعه على المزارعين مجانًا لدى وصوله.
اللقاحات المطابقة للعترة اللبنانية لن تصل قبل بداية العام
ولكن الهاني لم يتمكن من حمل تطمينات قاطعة للمزارعين. فاللقاح المطابق للمتحور الذي لحق بأبقار لبنان، لا يبدو أنه سيصل قبل بداية العام المقبل. وإلى أن تصل كمياته التي قدرت بنحو 400 ألف جرعة، ما على المزارعين المحظوظين بجرعات لقاح الـ SAT1 الذي يبدأ وصوله من بلدان أخرى مصابة بالفيروس في الأسبوع الجاري، بكمية لن تتجاوز الـ 100 ألف لقاح، سوى أن يتأملوا بأن تكون "عترة" لبنان مشابهة لـ"عترات" الدول المستورد منها. وإلا فإن "المضاعفات" قد تكون أخطر من الإصابة. علمًا أن الوزارة عمدت إلى تسهيل وصول هذه اللقاحات، حتى من مصادر لم تكن معتمدة سابقًا، وفقًا لما أكده وزير الزراعة، سواء من تركيا أو الارجنتين. ولكن هذه اللقاحات كما قال "لا تنفع القطيع الذي أصيب بالجائحة. والأخير يحتاج الى احتواء وإدارة صحيحة للتخفيف من الأضرار الموجودة".
ولذلك رأى الهاني أنه بالأزمات من المفيد أن يتكتل المعنيون بالقطاع، ويتعاونوا بثقة في ما بينهم على مواجهتها. مشيرًا الى أن الوزارة ومربي المواشي ليسوا طرفين في مواجهة هذه "المصيبة" بل طرف واحد، والمطلوب "إجراءات وقائية" تضاف إلى عملية التحصين، الذي لن يكون سحرًا في القضاء على الحمى، والمطلوب حماية ما تبقى من قطعان غير مصابة بإجراءات استثنائية.
المصيبة كبيرة على المزارع والمعامل لا ترحم
داخل "الجسم الزراعي" الذي جمع الوزير بمربي القطعان ومستوردي اللقاحات، لم يخف النقاش حجم المشكلة ولا حاول تجميلها. الخسائر كبيرة، وبعضها مباشر وبعضها طويل الأمد. مع تسجيل حالات أنهكت القطعان، خصوصًا أن الأبقار التي كانت على مشارف التعافي، عادت وأصيبت بالالتهاب الفيروسي للضرع، وهو ما وصفه خير الجراح بـ "الكارثة" التي تسبب تلفًا واسعًا في القطيع. علمًا أن مضاعفات المرض اقتصادية بالدرجة الأولى، وسط تأكيدات تجزم بعدم انتقاله إلى "البشر". حيث شرح الجراح أن "المزارع يتكبد مبلغًا يتجاوز الـثلاثة آلاف دولار لكل بقرة، هذا عدا عن كلفة تعليفها التي قد تتراوح بين 200 و300 دولار.
أحد مربي الأبقار في الاجتماع نفسه، ترجم حجم الخسارة التي خلفتها الكارثة على المزارعين. فروى كيف أنه اشترى 250 بقرة حلوبًا في 31 تشرين الماضي، وقد أصيبت كلها حاليًا بالحمى. وبعد أن كانت تنتج أربعة أطنان من الحليب لا تصل كمية انتاجها حاليًا إلى 800 كيلو، بينما يحتاج يوميًا إلى أدوية بكلفة ألف دولار. مشيرًا إلى أن خسارته في الأبقار إذا لم تنج تصل إلى 400 ألف دولار، وهذا في وقت لم يصل اللقاح.
اقتصاديًا أيضًا، ينذر التراجع في كميات إنتاج الحليب بارتدادات حتى على المستهلك. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن انخفاض كمية إنتاج الحليب سترفع سعره بالنسبة للمصانع. فهؤلاء بادروا إلى استغلال الأزمة، ليخفضوا تسعيرته من 70 سنتًا للكيلو إلى 67 سنتًا. وهذا ما يطرح إشكالية أخرى حول مصدر الحليب الذي تعوّل المعامل عليه للحفاظ على دورتها الإنتاجية وتلبية حاجات السوق من صناعات مشتقات الحليب.
الثقة المفقودة بالوزارة
لا شك أن حجم الأزمة الأخيرة التي يمر بها مربو المواشي تتفوق على معظم المشاكل المزمنة التي تم استحضارها خلال اجتماعهم مع وزير الزراعة. ولكن الأهم أنها كشفت عن انعدام ثقة المزارعين عمومًا بما يمكن "للدولة" أن تقدمه من حلول لهم. وهذا ما ينطبق أيضًا على الأزمة الأخيرة التي حلت بهم، حيث تنعدم ثقة المزارعين بقدرة الوزارة على التصدي للجائحة الجديدة أو حتى للمساهمة في تحمل عبئها معهم.
لا بل ذهب بعضهم إلى حد اتهام "موظفي الوزارة" وكوادرها بالتقصير، أو باتخاذ القرارات الخاطئة. ومن بينها القرار الذي اتخذ باستيراد الأبقار من مصر. فلفت أحدهم إلى "أننا كنا نأتي بأبقارنا من أوروبا ومن البرازيل، فما الذي استجد لتحمّل شاحنة أبقار من مصر في شهر حزيران الماضي، مع أن الفيروس كان قد بدأ يظهر هناك حينها". مستطردًا أنه حتى لو لم تكن مصر مصدر العدوى، كان يمكن أن "لا ننام بين القبور ولا نرى أحلامًا وحشة".
في المقابل استحضر أحد مربي الأبقار انفجار 4 آب في مرفأ بيروت، معتبرًا أن ما حل بالقطاع يوازي بتداعياته على المزارعين ما حل بلبنان عمومًا. وتحدث عن كميات من الأعلاف المستوردة التي قال إنها حتى لو تناولها الدجاج "بيفطس". فكيف دخلت الى لبنان؟
انطلاقًا من هنا يصر المزارعون على أنهم لا يريدون وعودًا وإنما نتائج على الأرض. ومن خلال استحضارهم تراكمات سنوات من الأزمات، طلبوا بحماية المزارع، وخصوصًا من مضاربة بودرة الحليب، والزيوت المهدرجة، بالإضافة إلى الحليب المهرب.
الهاني يحيل أسماء مهرّبين إلى النيابة العامة
على الرغم من علامات الاستفهام التي طرحها المزارعون حول باخرة مصر، والتي قالوا إن هناك ست بواخر أخرى تتحضر للقدوم منها، بدا انتقال العدوى منها مستبعدًا بالنسبة لفريق وزارة الزراعة.
إذ شرح الهاني بالتعاون مع رئيس دائرة الثروة الحيوانية للحاضرين آلية استيراد الأبقار من مصر، موضحًا أنها تشكل محطة تحجر فيها الأبقار القادمة من أفريقيا، قبل وصولها إلى لبنان للتأكد من سلامتها. وبالتالي تمسك وزير الزراعة بنظريته التي كررها حول انتقال العدوى إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية، متحدثًا عن لائحة طويلة من المهربين التي أحالها إلى النيابة العامة للمطالبة بتوقيفهم.
وفيما أبدى الهاني استعداده التام لوقف استيراد الأبقار إذا كان ذلك يشكل حلًا، ترك لممثل الشركة الوحيدة التي تحتكر عملية استيراد اللقاحات في لبنان حاليًا، أن يشرح سبب التأخر الحاصل في استقدامها. فربط الأخير ذلك بتزايد الطلب عليها عالميًا، في وقت لم يكن لبنان، أولوية بالنسبة للشركات المصنعة، لأن العدوى لم تكن قد انتشرت فيه إثر اجراء مناقصة لاستيراد اللقاح، وبالتالي لم تتحدد نوعية "العترة" التي يجب مكافحتها باللقاح حتى يؤدي فعاليته.
فلماذا لم تطبق هذه الآلية في سوريا إذًا، حيث لم تعترف السلطات بوجود العدوى حتى الآن ومع ذلك حصلت على مليون و600 ألف لقاح، وباشرت بتوزيعها وفقًا لبيان صادر عن وزارة الزراعة فيها. يجيب الهاني على هذا السؤال الذي طرحته "نداء الوطن" جازمًا، بأن اللقاحات التي أحضرت في سوريا إذا لم تكن معدلة لتتطابق مع نوع المتحور الذي ضرب القطيع هناك فلن تكون مفيدة له، لا بل قد تكون مضرة. علمًا أنه وفقًا لشرح علمي لأنواع "العترات" التي يحملها الفيروس، فإن نوعية المتحور لا يمكن تحديدها إلا من خلال مختبرات دولية معتمدة، وهذا ما يتطلب أولًا الاعتراف بأن الفيروس موجود، وأصاب القطيع فعليًا.
خارطة طريق للخروج من الأزمة
بدا واضحًا من خلال اللقاء الذي جمع الهاني بقسم من مربي الأبقار المتضررين جراء الأمة القلاعية في نهاية الأسبوع الماضي، بأن مصيبتهم أكبر من إمكانية استيعابها بوعود. تفهم الهاني هذا الأمر، وأكد جعل قضيتهم أولوية على طاولة مجلس الوزراء، خصوصًا أن الحلول والإجراءات الوقائية التي حددتها الوزارة، تتطلب تضافرًا على مستويات وزارات مختلفة: المزارعون والمجتمع المدني، البلديات، بالإضافة إلى الجهات الأمنية والقضائية. هذا في وقت لم يخف الهاني انطباعاته بأن البيانات من دون متابعة حثيثة لها، لن تكون سوى حبر على ورق.
وحدد الهاني نقاطًا اعتبرها بمثابة خارطة طريق للخروج من الأزمة بأقل الأضرار الممكنة. فشدد على مسؤولية المربين في احتواء المرض عبر إجراءات وقائية قال إنهم لا يحتاجون لمن يرشدهم إليها. محملًا المسؤولية أيضًا للأطباء البيطريين. في مقابل سعي الوزارة لتأمين اللقاحات المتوفرة إلى أن يتم استيراد كميات اللقاح التي تتناسب مع نوعية العترة اللبنانية.
في الأثناء وعد باتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم المخاطرة باستيراد كميات جديدة من الأبقار. مع الحرص على الحفاظ على التوازن في السوق، بحيث لا ينعكس وقف الاستيراد على المستهلك اللبناني. علمًا أن كمية القطيع الموجود في لبنان، كما أوضح، تكفي حاجات السوق اللبناني، سواء للحوم أو للحليب، لمدة شهرين. ودعا الهاني أيضًا المزارعين إلى أن يكونوا شركاء في مواجهة التهريب، وأن يبقوا خطوطهم مفتوحة مع الوزارة للتبليغ عنها، لكونها تلحق ضررًا بالقطاع على المستويات كافة.
قي المقابل تمسك الهاني بواقعيته تجاه المطالبات التي تكررت على مسمعه بالتعويض على المزارعين. فلم يعِد بأي تعويض عبر خزينة الدولة "المفلسة"، ولكنه طلب من المزارعين توثيق الخسائر بالتعاون مع المراكز الإقليمية. معتبرًا أن ذلك لا بد أن يحمل الإفادة، حتى ولو من خلال السعي لدعم عبر الجهات المانحة.
أقر الهاني في المقابل بأن جائحة "الحمى القلاعية" حلّت وسط واقع مشرذم وصعب يعاني منه القطاع. ليضيء في المقابل على جهود تبذلها الوزارة منذ توليه مهماتها، لوضع القطاع الزراعي عمومًا أولوية اقتصادية في كل جلسة تعقدها الحكومة الحالية، وعلى تأمين الحماية اللازمة له على مختلف المستويات، مؤكدًا أن استراتيجيته بالنسبة للزراعة ليست مبنية على فتات الدعم إنما على دعم القطاعات. فهل يترجم ذلك أولًا في نجاح يحصد باحتواء "حمى الأبقار" حتى ولو بعد تقصير واضح في الإجراءات الوقائية؟
لوسي بارسخيان - "نداء الوطن"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|