"خبراتٌ تفاوضية" من رودس إلى الناقورة: سيناريو الترسيم راجع؟
دخل لبنان مرحلة اختبار سياسي جديد، ضمن مسار ما بعد الحرب على غزة، واحتمالية تصاعد التوتر على ضفتي الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. إسرائيل لا تزال تشعل الجبهة جنوباً برسائل نارية، وأميركا تضغط على مستوى حصرية السلاح، وفي إطار الدفع بالعرض الأميركي بالتفاوض المباشر مع إسرائيل، وهو ما يرفضه لبنان الرسمي، متمسكاً بالتفاوض غير المباشر. وشكّل ما صدر عن رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، تزامناً مع اعلان وقف الحرب على غزة، بحديثه حول المناخ التفاوضي، ومسار التسويات الذي "لا ينبغي للبنان أن يعاكسه"، الطرح السياسي الطبيعي للبنان تجاه إسرائيل.
وهو ما يعيد طرح أبرز محطات التاريخ الطويل من التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، حيث يمتد تاريخ المواجهات لعقود عدة منذ اتفاقية الـ1949، مروراً بعملية الليطاني في الـ1978، واجتياح الـ1982، إلى عناقيد الغضب في نيسان 1996، وإلى العام 2002 والقرار 1701، وصولاً إلى حرب تموز 2006، وإلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية في العام 2022، والحرب الإسرائيلية الأخيرة في العام 2024.
فما هي أبرز محطات التفاوض بين لبنان وإسرائيل؟
اتفاقية الهدنة للعام 1949
مع نهاية الحرب العربية - الإسرائيلية في فلسطين، العام 1948، وعقد اتفاقات هدنة بين الدول العربية المعنية وإسرائيل، جرى بموجبها رسم حدود الهدنة، كان لبنان جزءاً من تلك التفاهمات. وقبل عقد الهدنة اندلعت مواجهات شرسة بين القوات العربية والإسرائيلية، شارك فيها الجانب اللبناني، حيث خاض أهم المعارك (معركة المالكية). وبهدف وقف العدوان، جرت مفاوضات الهدنة في جزيرة رودس بعد توقف المعارك. ووقع لبنان وإسرائيل على الاتفاقية في الناقورة في العام 1949.
تعتبر هذه أول اتفاقية نصت على وقف إطلاق النار وتحديد خط الهدنة كفاصل عسكري موقّت بين لبنان وإسرائيل، دون أن يُعتبر حدوداً سياسية نهائية. بطبيعة الحال، لم تنفذ إسرائيل بنود الاتفاق، ولم تنسحب إلى خط الهدنة الذي تم الاتفاق عليه. عملانياً، ينظر بعض السياسيين في لبنان إلى هذا الاتفاق كمخرج للازمة اليوم، كالرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذي يدعو إلى الرجوع للاتفاق كحل للأزمة.
اتفاقية الـ78 وصدور القرار 425
اتفاقية الـ1978 جاءت عقب الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان أو ما يُعرف بـ"عملية الليطاني"، وأدت إلى إصدار مجلس الأمن الدولي القرارين 425 و426، اللذين أسفرا عن إنشاء قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان اليونيفيل. ودعا القرار 425 إلى انسحاب فوري لإسرائيل وأقرّ إنشاء اليونيفيل لتأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية واستعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة الحكومة اللبنانية.
اتفاق 17 أيار 1983
معاهدة الـ83 هي الاتفاق السياسي الرسمي الوحيد الذي وقع بين بيروت وتل ابيب وفشل عملياً. جاء هذا الاتفاق في ظرف سياسي صعب على لبنان، قبله كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وانقسام سياسي كبير في البلد.
نص الاتفاق الذي رعته أميركا على إنهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل، وتأليف لجنة اتصال بإشراف الولايات المتحدة الأميركية على تنفيذ الاتفاق. وفرضت إسرائيل على لبنان أن تنسحب، ولكن بشرط خروج القوات السورية ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وعدم نشر أسلحة ثقيلة في الجنوب. نتيجة لذلك أدى الاتفاق إلى نشوب اقتتال داخلي في لبنان وانقسام المشهد السياسي بين الحكومة والرئيس أمين الجميل من جهة، وجبهة الإنقاذ الوطني وسوريا الرافضين من جهة ثانية للاتفاق. وبعد أقل من عام انهار الاتفاق وأُلغي عام 1984 بقرار من مجلس النواب اللبناني.
تفاهم نيسان 1996
هو عام لا يُنسى من ذاكرة اللبنانيين، عندما شنت إسرائيل في نيسان 1996 عملية "عناقيد الغضب"، وأدى القصف الإسرائيلي على مقر للأمم المتحدة في قانا، الذي إلى استشهاد أكثر من 100 مدني، وهو ما أثار موجة استنكار دولية، ما دفع الولايات المتحدة وفرنسا إلى رعاية الاتفاق الذي عرف بـ"تفاهم نيسان".
لم يمنع التفاهم المواجهات العسكرية، وإنما اعتمد على آليتين. الآلية الأمنية تمثلت في لجنة مراقبة التنفيذ، بوجود فرنسي وأميركي وسوري. والآلية الاقتصادية، وتمثلت في المجموعة الاستشارية برئاسة أميركا، الهادفة إلى ما سمي "تلبية إعادة إعمار لبنان".
بين الحرب والديبلوماسية أي فرصة يمتلك لبنان؟
وقبل استكمال سردية المراحل التفاوضية بين لبنان وإسرائيل، منذ حرب الـ2006 وصولاً إلى عدوان الـ2024، يُتوقف عند سؤال: ما بين تجربة الحرب وتجربة التفاوض أي فرصة يمتلكها لبنان اليوم؟
يؤكد السفير اللبناني السابق في واشنطن، رياض طبارة في حديث لـ"المدن" أن لبنان خاض سابقًا أكثر من جولة تفاوض مع إسرائيل، ويستعيد تجربة عام 1996 حين كان سفيرًا ورئيسًا للوفد اللبناني. يومها، كما يقول، "وُصفت المفاوضات بأنها نجحت مئة في المئة، وحتى الصحافة الأميركية تحدثت عن نجاحها". ويرى أنّ لبنان اليوم يقف أمام فرصة مختلفة، إذ يحظى بتعاطف دولي غير مسبوق، ما يجعل تقييم التفاوض مرتبطًا بطبيعة الملف: "إذا كانت القضية معقدة أم أقل تعقيدًا". مع ذلك، لا يبدو طبارة متفائلًا بشكل كبير. فهو يعتبر أن المشهد لا يزال ضبابيًا: "الأمور عالقة وبعض التفاصيل غير واضحة، وكل شيء يسير تحت ما يمكن وصفه بـ محدلة ترامب الساعية إلى انتزاع إنجاز بأي شكل".
ويُعيد طبارة التذكير بمفاوضات ترسيم العام 2022، حيث يرى أن لبنان قدّم تنازلات أكثر مما طُلب منه، متسائلًا: "يقولون إن الحرب لم تؤدِّ إلى نتيجة، فهل الديبلوماسية بدورها حققت نتيجة تُذكر؟". ويستحضر تجربة عام 2000 ليشير إلى أن "المقاومة نجحت وقتها"، مؤكدًا أن أي تفاوض سواء مباشر أو غير مباشر، يحتاج إلى مقومات حقيقية للنجاح.
وعن هذه المقومات اليوم، يشرح طبارة: "لدينا واقع يقول إن المقاومة حققت نجاحات في محطات محددة، والديبلوماسية كذلك. العامل الثاني هو الجهة الراعية لأي اتفاق، واليوم الولايات المتحدة حاضرة، ولكن بدافع تحقيق أهداف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما يعني أن الضغط على لبنان في ملفات السلاح وإعادة الإعمار هو الأكبر منذ سنوات". ويضيف: "العامل الثالث يتمثل في أن اللوبي الإسرائيلي في أميركا يعيش حالة ضعف، والرأي العام العالمي بات يواجه إسرائيل بطريقة غير مسبوقة، حتى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو نفسه لم يعد مرغوبًا فيه على المستوى الدولي"، معتبراً أن هذه العوامل تصب جزئيًا في مصلحة لبنان. لكن بالمقابل، يحذر من عامل معاكس: "في إسرائيل قيادة متطرفة تحمل مشروع إسرائيل الكبرى، وهي غير مستعدة للدخول في مفاوضات يمكن أن تُفهم على أنها تنازل عن التضحيات التي قدّمتها من وجهة نظرها. لذلك قد تعمل على إفشال أي مسار تفاوضي مع لبنان خدمةً لأهدافها التوسعية". وبحسب طبارة "اليوم، لبنان يذهب لتجربة الديبلوماسية مجددًا، بعدما أثبتت الحرب الأخيرة أن المقاومة لم تتمكن من تحقيق نتيجة".
القرار الأممي 1701
وبالعودة إلى مسار التفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل، فبعد العدوان الإسرائيلي على لبنان وحرب الثلاثة وثلاثين يوماً عام 2006، تدخلت الأمم المتحدة لوقف الحرب عبر إصدار القرار الدولي رقم 1701. ونصّ القرار على وقف الأعمال العدائية بين الجانبين، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب، وتوسيع مهمة قوات الأمم المتّحدة لمراقبة الوضع على الحدود. وبناء على القرار الأممي، رسم "الخط الأزرق"، إلا أنّ نقاط عدة بقيت عالقة، ويصر لبنان على اعتبارها مناطق محتلة ويطالب بتحريرها.
اتفاق ترسيم الحدود البحرية 2022
أُعيد هذا الاتفاق إلى الجدل السياسي اليوم بقوة، بعدما أعاد رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون التذكير به، مؤكداً أنه سبق للدولة اللبنانية أن تفاوضت مع إسرائيل برعاية أميركية والأمم المتحدة، ما أسفر عن اتفاق لترسيم الحدود البحرية تمَّ الإعلان عنه من مقر قيادة اليونيفيل في الناقورة. وسأل عون "ما الذي يمنع أن يتكرَّر الأمر نفسه لإيجاد حلول للمشاكل العالقة، لاسيما وأن الحرب لم تؤد الى نتيجة؟"، في ظل التأكد اللبناني على التفاوض غير المباشر، وما صدر عن رئاسة الجمهورية من توضيحات في هذا الإطار.
وتوصّل لبنان وإسرائيل في 27 تشرين الأول 2022 إلى اتفاق لترسيم حدودهما البحرية، بوساطة أميركية. هدف الاتفاق إلى حل النزاع القائم بين البلدين وفتح المجال أمام استغلال الموارد الطبيعية في المنطقة المتنازع عليها. كما تضمن الاتفاق ترتيبات مالية بين إسرائيل ومشغّل البلوك 9 لضمان حقوق الطرفين في الموارد المكتشفة.
اتفاق وقف إطلاق النار 2024
وصولاً إلى اتفاق 27 تشرين الثاني 2024، بعد حرب دامية إسرائيلية على لبنان، أدت إلى تدخل الولايات المتحدة وفرنسا للتوسط في اتفاق وقف إطلاق النار. ورغم التزام الجانب اللبناني بالقرار، إلا أن إسرائيل وبشكل يومي تخرق الاتفاق من خلال اعتداءات تؤدي إلى سقوط ضحايا فضلاً عن الدمار في الممتلكات والأرزاق. فيما يطالب لبنان المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على لبنان والانسحاب من النقاط المحتلة في الجنوب اللبناني.
زينب زعيتر - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|