تهديدٌ بالتقسيم في بلدية بيروت... والسّبب: "الجرادين" والأشجار!
لم يسبق للمجالس البلدية المتعاقبة في بيروت، منذ أول انتخابات في عام 1998، أن انحدرت إلى المستوى الذي يقدّمه المجلس الحالي. ما وُلد أصلاً من رحم لائحة غير متجانسة، قامت على حسابات انتخابية بحتة، لا على رؤية مشتركة، تحوّل اليوم إلى كيان مأزوم ومشلول يدور حول خلافاته الداخلية.
الصراعات التي أضحت يومية لا تحصل على خلفية مشاريع إنمائية حقيقية، إذ لم يُطرح أي مشروع إنمائي منذ بداية هذا العهد العالق على جدول أعمال يقترب من الخواء. فصار مصير المجلس وديمومته متعلّقين بـ«جرادين» العاصمة وتشحيل شجيراتها، عبر اعتبار أنهما «البندان الخلافيان»، اللذان تسبّبا في بعض الأحيان بتطيير الجلسات وتبادل الاتّهامات وصولاً إلى الاشتباكات الكلامية!
وهذان البندان، على تفاهتهما، يكشفان أحوال العاصمة «من تحت»، ويؤكّدان أنّ التعايش الذي يتغنّى به البعض ليس إلا كذبة يتصنّعها. والدليل هو الخطاب الطائفي والمناطقي الذي يتّبعه بعض الأعضاء، مستحضرين قاموس الحرب الأهلية ورافعين «المتاريس الطائفية». وصار هيّناً لدى هؤلاء ترداد عبارة «ما بتقطع» من قبل الكثير من الأعضاء المسيحيين، تعبيراً عن رفضهم لبنود قد تكون خلافية، حتى قبل معرفة وجهة نظر الأعضاء المسلمين. كما صار التعاطي المتّبع من قبلهم يقوم على التعميم وربط الأعضاء المسلمين جميعهم بـ«حزمة واحدة» واتّهامهم – على النوايا – بإلحاق الأذى بالمناطق المسيحية!
تهديد و«شانتاجات»
وعليه، باتت لغة التهديد والوعيد هي السائدة: «إذا طرحتم هذا البند سننسحب»، «إذا جرى التصويت على أحد البنود سنقدّم استقالتنا»، وصولاً إلى التلويح بتحريك المطالبة بتقسيم العاصمة إلى «بيروت مسيحية» و«بيروت مسلمة»، أو بلغة ملطّفة «بيروت الأولى» و«بيروت الثانية». وهو ما دفع عدداً من الأعضاء المسلمين إلى الاعتراض على ما سمّوه «الابتزاز» الذي يتعرّضون له عبر هذه اللغة، فيما اعتبر آخرون أنّ هذه الخشية مبرّرة، ولو أنّها مضخّمة، ومردّها فقدان المجلس الحالي توازنه الطائفي بعد الانتخابات الأخيرة، التي أفرزت مجلساً أكثريّته بيد المسلمين (13 مقابل 11).
في المقابل، يشير عدد من الأعضاء إلى أنّ أسباب الشرذمة مردّها فقدان الثقة بين الأعضاء ووجود «الرؤوس الحامية»، إضافة إلى ما هو أهم: غياب ضابط الإيقاع والقيادة الصارمة القادرة على الضرب بيدها على الطاولة للجم هذا التفلّت. ويعتب هؤلاء على رئيس البلدية إبراهيم زيدان، الذي ارتضى في بعض الأحيان تطاول البعض على منصب الرئيس من دون أن يحرّك ساكناً، فاتحاً الباب أمام تردّي مستوى الخطاب الطائفي وطرح «خزعبلات» قد تودي ببيروت بعد أشهر أو سنوات إلى «تقسيم مُقنّع»، يُسهّل تمريره في مجلس النواب.
وتجلّى ذلك بما طرحه العضو المحسوب على «القوات اللبنانية» سعيد حديفة، من «شانتاج» في البنود بين «بيروت الأولى» و«بيروت الثانية»، عبر تمرير بند رشّ المبيدات وتشحيل الأشجار في المناطق الإسلامية، مقابل تخصيص المبلغ نفسه لـ«بيروت الأولى» (نحو 10 آلاف دولار) من أجل صيانة شوارعها، بذريعة أنّ «الأولى» لا تعاني من موجة القوارض التي تجتاح «الثانية» ولا تحتاج أشجارها إلى التشحيل!
معركة على «غروب واتس آب»
أمّا الأزمة المستجدّة، فتمثّلت بانتقال الانقسام من جلسات المجلس واللّجان إلى المجموعة الخاصة بالأعضاء على «واتس آب». فقد بلغت الأزمة ذروتها عندما طرح رئيس البلدية فكرة نقلتها إليه إحدى الشركات، تقضي باستثمار عقار بلدي وتحويله إلى محطة لتوليد الكهرباء يستفيد منها سكان العاصمة. ورغم أنّ زيدان قدّمها كاقتراح أوّلي ودعا الأعضاء إلى اجتماع مع الشركة لمناقشتها تقنياً، إلا أنّ حديفة، ومعه العضو المحسوب على النائب السابق ميشال فرعون، جويل مراد، رفضاها بعنف، رابطين بينها ومشروع معمل فرز النفايات في الأشرفية الذي أُقرّ في العهد السابق، والذي تمّ تحريكه إعلامياً قبل يومين، تحت عنوان «تهجير سكان الأشرفية»!
هذا الربط أشعل عاصفة طائفية. سرعان ما خرج النقاش من إطاره التقني ليتحوّل إلى تبادل خطابات تقسيمية: «مناطقنا ومناطقكم»، «نحن وأنتم»، «تهجيرنا»، «أرضنا وأرضكم». فردّت مراد، بعبارة «ما بتقطع». ليسألها زيدان عن معناها، مشيراً إلى أنه سمعها في آخر مرة «على الحواجز!»، فردّت مجدّداً: «تاريخنا بيشهد»!
التراشق الكلامي استمرّ حتى طالب البعض بإقفال المجموعة نهائياً وتحويلها إلى قناة أخبار فقط، خصوصاً أنّ بعض الأعضاء كانوا يعترضون أصلاً على مناقشة الأمور عبر «واتس آب» ولساعات متأخّرة من الليل، على اعتبار أنها ليست سبيلاً قانونياً للتبليغ.
لكنّ الأمور لم تنتهِ عند «واتس آب»، بل سرعان ما بلغ التوتّر مكتب محافظ بيروت القاضي مروان عبود، الذي زاره حديفة، ورمى الملفات المحالة إلى الأعضاء على مكتبه، رافضاً أداء المحافظ وكال الاتّهامات إليه بالصراخ والتطاول، بحضور أحد الأعضاء، ما كاد يهدّد بتحوّل الأمر إلى عراك.
جلسةٌ نارية
كل هذه التطورات دفعت بعض الأعضاء إلى نصح زيدان، بإرجاء الجلسة المقرّرة أمس، تفادياً لوقوع الإشكالات في ظلّ تهديدات بإمكانية حصول تضارب، لكنه أصرّ على عقدها. وما إن طُرح البند المتعلّق بتشحيل الأشجار ورشّ المبيدات حتى بدأ حديفة بالصراخ، مهدّداً بالذهاب إلى القضاء لأنّ هذه «البنود ما بتقطع»، على اعتبار أنها سترسو على متعهّد البلدية الذي تحوم حوله شبهات كثيرة، مردّداً «ما نريده فقط بيقطع». ليردّ عليه أحد الأعضاء بأنّ علاقته بالمتعهّد المذكور كانت جيدة قبل أسابيع قليلة وكانت البنود تمرّ من دون اعتراض حتى ولو رست عليه، إلّا أنّ حديفة، برّر الأمر بأنه كان يفرض عليه شروطاً في التنفيذ، متّهماً إيّاه بأنه أخلّ بها أخيراً.
زيدان، حاول تهدئة الأجواء وسط مداخلات لبعض الأعضاء، ومنهم كرامي غاوي وأحمد شاتيلا، فيما شدّد آخرون على ضرورة تمرير بعض البنود الضرورية قبل فتح باب المناقصات التي تحتاج وقتاً أطول. لكن، وبحسب الأعضاء استمرّ حديفة، بالأسلوب العصبي نفسه، ما دفع العضو عماد فقيه، إلى مداخلة أشار فيها إلى «رفض الأعضاء هذا التعاطي، وإيحاء الأعضاء المسيحيين أنهم يتعاملون مع أعضاء مسلمين كأنهم غير بشريين ولا يمكن التفاهم معهم»، مؤكّداً أنّ «الأفضل أن يتّفق الأعضاء الـ 24 على صيغة موحّدة». وقال: «أخلاقنا وديننا لا يسمحان لنا بإيذاء الغير، فلماذا تصنّفوننا بهذه الطريقة؟».
وتساءل عن «الديمقراطية التي يرد البعض اتّباعها من دون مناقشة البنود والاكتفاء بالاعتراض حتى على إدراجها على جدول الأعمال»، مبدياً تحفّظه على الخطاب المتّبع والتهديد بالتقسيم.
وسريعاً اشتعلت الأزمة مجدّداً، ما دفع بحديفة، إلى الانسحاب من الجلسة، مردّداً: «أنا لا يشرّفني الاجتماع مع هذا المجلس»، من دون أن تفلح محاولات العضوين المحسوبين على «القوات»، نائب الرئيس راغب حداد ووفاء حسني، في إعادته إلى الجلسة.
وبعد انسحاب حديفة، قدّمت حسني اعتذارها عمّا حصل، مؤكّدةً أنّ «القوات» لا تتبنّى هذا الأمر (علماً أنّ اجتماعاً حصل أمس الأول في مكتب زيدان، أكّدت فيه حسني، تنصّل «القوات» من مواقف حديفة)، قبل أن تدعو الأعضاء إلى تفهّم حساسية حديفة، المنطلقة من معايير أهالي المنطقة (المسيحيين) الذين يولون أهمية قصوى لمسألة النظافة والتلوّث. وهو ما أثار حفيظة عدد من الأعضاء عبّر عنها محمد يوسف بيضون، معترضاً على كون هذا التبرير يعيد الأمور إلى النقطة نفسها: «مناطقنا ومناطقكم»، «معايير النظافة عندكم وعندنا»، «بيروتكم وبيروتنا». وقال: «أنا غير جاهز لسماع هذا التبرير».
في المحصّلة، انتهت الجلسة التي كان متوقّعاً أن تتحوّل إلى معركة أقسى، بإقرار المجلس البنود المتعلّقة بالتشحيل ورشّ المبيدات عبر التلزيم، ما دفع حديفة، إلى كتابة منشور على صفحته هدّد فيه بمقاضاة المجلس البلدي.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|