الصحافة

نواف سلام الغريب عن كلّ شيء طبيعي!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

للوهلة الأولى، يبدو نواف سلام كسياسي جاء ليعطي الناس درساً في كيف يكون رجل الدولة. هو الآتي من عالم بعيد عن التركيبة التقليدية المتوارثة للحكم في لبنان، يدرك تماماً أنه وصل إلى منصبه رغماً عن إرادة غالبية ساحقة من هذه التركيبة. كما أنه في قرارة نفسه، لا يكنّ احتراماً لمعظم اللاعبين المحليين، وإن كان في المقابل يُبدي افتتاناً ببعضهم.

ويكشف سلوكه عن تناقض حادّ، ثقافياً أو طبقياً أو تعبيراً عن موقع اجتماعي أرفع مكانة، أمام من يقفون في مواجهته. وكغيره من نخب لبنان، لا يشعر بالارتياح أمام مشهد الجماهير الملتفّة حول زعامات سياسية أو طائفية أو مذهبية، فتكون ردّة فعله أن يعتبر نفسه غير معنيّ بالتواصل المباشر مع الناس، مفضّلاً تقديم صورته كشخصية سياسية تحرّرت من إرث سنوات الشباب. وكما هو حال أبناء طبقته، لا يستعيد سلام سنوات شبابه إلا بوصفها مجرّد فعل عاطفي تغلب عليه الانفعالات لا الوعي.

تماماً كما يفعل المتحوّرون حين يلوذون بمفردة «النضج» لتبرير انتقالهم من موقع إلى آخر: يصفون انخراطهم في أيّ حركة تغييرية بأنه انفعال عابر لا يعكس وعياً كاملاً، ثم يبرّرون اصطفافهم الجديد بأنه نتاج «نضج» ورؤية أعمق للوقائع التي تحكم الحياة.

لكن، في جميع الأحوال، تبقى هذه النخب أقرب إلى نادٍ خاصّ لا شاغل له سوى تعزيز علاقته بالغرب. والغرب هنا، ليس مدينة أو سيارة أو ثياباً أو هاتفاً خلوياً، بل منظومة ثقافية متكاملة. والانتماء إليها يفرض على الفرد التخلّي عن الكثير مما يربطه بجذوره وموقعه الأصلي. وهكذا يتحوّل «التغرّب الثقافي» إلى فعل اغتراب كامل، يصل إلى حدّ القطيعة مع الماضي، حيث يصبح التأثّر بالفكر والسلوك الغربيَّيْن أشبه بحالة استلاب تامّ.

ولاختبار الهوى الذي يتحكّم بأفراد هذه النخب، يكفي التمعّن في سلوكهم الشخصي إزاء ما يُعرف بالأنشطة العامة. فسواء كان أحدهم داخل السلطة أو خارجها، تكشف ردّة فعله الأولى على أيّ حدث عن موقعه الثقافي، أو عن موقع رغبته في التموضع. فلنأخذ مثالاً: يصل نواف سلام إلى مكتبه صباحاً، فيدخل مساعده ليبلغه أن ثلاثة سفراء طلبوا مواعيد عاجلة: أحدهم من أوروبا الغربية، وآخر من أوروبا الشرقية، وثالث من دولة عربية أو أفريقية.

ردّة فعله التلقائية ستكون إعطاء الأولوية للسفير القادم من الغرب، قبل أن يبدأ بالسؤال عن دوافع زيارة الآخرين. أمّا إذا كان السفير العربي يمثّل السودان أو تونس أو حتى العراق وسوريا، فسيسأل عن البقية أولاً، ثم يقرّر من يستقبل. لكنّ الحيرة تتضاءل إذا أبلغه مساعده بأنّ الضيف العربي هو سفير السعودية أو الإمارات، إذ عندها يتقدّم اسمه مباشرة على الآخرين.

ولنذهب أبعد: ماذا لو أخبره مساعده بأن سفراء روسيا والصين وأميركا يطلبون مواعيد عاجلة أيضاً؟ عندها، يعود سلام إلى ذلك البناء الفكري والثقافي الذي شادَه باسم «النضج»، ليجد نفسه يختار السفير الأميركي أولاً. ليس لأنه يمثّل الدولة الأقوى في العالم، بل لأنه يمثّل «مركز الغرب» اليوم. وحين يجلس معه، سيكون مُنصِتاً أكثر منه متحدّثاً، متجنّباً أي سؤال قد يُزعج ولو من باب المشاغبة.

أمّا أمام السفير الصيني، فسيتقمّص دور أستاذ تاريخ، وربما ينظر إليه كـ«إنسان غير أصلي». بينما سيتعامل مع السفير الروسي ببرودة واضحة، وكأنّ كييف هي مسقط رأسه الذي تقصفه الطائرات الروسية.

لكنّ النخبوي هنا، لا تقتصر فوقيته على تعامله مع سياسيين يعتبرهم من «درجة بائسة». فهو، مثلاً، في طريقه إلى مكتبه أو خلال عودته إلى منزله، لا يخطر في باله أن يطلب من مرافقيه التمهّل قليلاً ليتفحّص أحوال المدينة: كيف حال الأرصفة والطرقات والنفايات؟ ولا يفكّر أن يعرّج، ولو لخمس دقائق، على سوق الخُضر قرب المدينة الرياضية، أو أن يمرّ بمحلة البربير، أو أن يزور «كرم الزيتون». فجدول أعماله نخبوي أيضاً، ولا يتّسع لشؤون كهذه.

وحتى حين يناقش مسألة رواتب موظفي الدولة، من عسكريين وأساتذة وأجراء، لا يتعاطى معهم كفعل رعوي يُفترض أن يسكنه كرئيس حكومة؛ بل يتعامل معهم كفائض بشري يعتاش على تعب الآخرين. وإلا فكيف يجيبنا إن سألناه: هل خطر له يوماً أن يجالس موظفين يعملون في السراي الكبير نفسه، لا تكفي رواتبهم بدل محروقات سياراتهم ولا فواتير كهرباء منازلهم؟

بهذا المعنى، تبدو بعض تصرّفات رجل من هذا النوع مفهومة. فالحساب الوحيد الذي يقيم له وزناً هو ذاك المتّصل بالجهة التي أوصلته إلى منصبه. تذكّروا، مثلاً، كيف استقبل سلام وفداً من عكار برئاسة النائب وليد البعريني: كان يدرك تماماً أن هؤلاء جاؤوا بطلب مباشر من السعودية، ويعرف مُسبقاً أنّ البعريني لا يكنّ له أيّ ودّ، ولا يرى ما يجمعه به أصلاً. بل إنّ البعريني نفسه كان يخبّئ عتباً أو غضباً لأن سلام لم يمنح كتلته أي مقعد وزاري. ومع ذلك، أتى الرجل إلى الزيارة مُجبَراً لا أكثر.

وحال نواف في هذا النوع من الاجتماعات يشبه إلى حدّ كبير حال الزعامات التقليدية التي تضطر إلى ملاقاة جماهيرها بين حين وآخر لتسيير شؤون الطائفة أو الجماعة. أليس هذا ما يفعله، مثلاً، صديق نواف، وليد جنبلاط، مع القاعدة الدرزية؟

لكنّ مشكلة نواف تتجاوز أيّ إطار سياسي أو اجتماعي أو حتى ثقافي، عندما ينخرط في خطوات انفعالية تكشف عن الجانب الخفيّ من شخصيته، أو عن زوايا لا يراها الناس عن بعد. مثال على ذلك، حين وجد نفسه مضطراً إلى التجاوب مع طلب نواب العاصمة - الذين دعموا وصوله بطلب أميركي وسعودي - بشأن التعامل مع رغبة حزب الله في إضاءة صخرة الروشة بصورة الشهيد السيد حسن نصرالله في ذكرى استشهاده.

نواف سلام حرّ في ما يفكر فيه أو يشعر به، لكنه ليس حراً حين يتصرف وكأنه المسؤول عن تعبيرات الجمهور ومشاعره؛ فواجب الاحترام تجاهه يظل مطلقاً. وإذا كان قد وجد نفسه مضطراً إلى إطلاق اسم زياد الرحباني على شارع كبير، فقد اختار حينها هدفاً آخر، وهو إزالة اسم حافظ الأسد عن الشارع نفسه. واليوم، لا يفكر مطلقاً في السؤال عن أحوال منطقة الروشة أو الصخرة نفسها، بقدر ما يهمّه إبراز موقفه العدائي تجاه ما يمثّله السيد حسن نصرالله.

إذا كان نواف سلام مستعدّاً لأن يقود الجيش في مهمة نزع سلاح المقاومة بالقوة، فليس مُستغرباً أن يمنع تكريم قائدها الأبرز، ولو أنه يريد منّا أن نغفر له كل خطاياه لأنه كان في عداد هيئة محكمة دولية طالبت بمعاقبة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وكأنّه قام بعمل يخالف أبسط قواعد الحق في العالم.

نواف «بيك»، افعل ما تشاء، لكن تذكّر أنّك رئيس حكومة كلّ لبنان. وعندما تدخل إلى السراي الكبير، التفت فقط إلى نقش طلبه رفيق الحريري بنفسه، وأصرّ أن يوضع فوق باب السراي، كُتب فيه: «لو دامت لغيرك لَمَا آلت إليك».

ابراهيم الأمين -الاخبار

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا