رئيس مجلس القضاء الأعلى : لم ولن أُراضي أحدًا ولا أخاف من شيء
يُمسك رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي سهيل عبّود، بناصية القضاء بوقار نادر لا يتكلّفه، وحضور هادئ يُشبه هيبة القانون. متمسّك بالعدالة. صلب في صمته. وقراراته تنوب عن صوته.
منذ لحظة تعيينه رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى، تقدّم المشهد القضائي بخطى ثابتة فوق أرضٍ متصدّعة بفعل ضغوط السياسة، ومع ذلك، ظل سلوكه مشدودًا بين الصبر والنصر للعدالة.
رأس السلطة القضائية، الذي بادر من تلقاء نفسه عقب تعيينه إلى رفع السرية المصرفية عنه وعن أفراد عائلته، وبمفعول رجعي، حرص على أن يُبقي نفسه خارج بازار التسويات، ورفض أن يمرّ من أبواب الزبائنية، رغم كثافة الإغراءات. ويُروى في أروقة العدلية، أنّه كان يقول دائمًا: «أنا قاضٍ، وأريد أن أموت قاضيًا».
ليس أمرًا خافيًا، أنّ بداية ولايته على رأس مجلس القضاء الأعلى، تزامنت مع تداخل واضح للسياسة في مفاصل العدالة. لكنّه، تمسّك بثبات باستقلالية القضاء. ويُشهد له في أوساط الجسم القضائي، أنّه واجه ضغوط تلك المرحلة بمسلّمتين راسختين: «لم ولن أراضي أحدًا، ولا أخاف من شيء». ومن رحم تلك المواجهة، لا بدّ من مكاشفة.
«قضاة نظيفون وقضاء لا يشبههم»... مقولة يتداولها اللبنانيون كثيرًا، تعكس مأزقًا بنيويًا في منظومة العدالة. طرحناها على الرئيس الأوّل سهيل عبّود، فجاء جوابه سريعًا صريحًا: «أوافق على هذا التوصيف مع تحفظات. وأملك من الجرأة ما يمنعني من دفن رأسي في الرمال».
يشرح السياق التاريخي لهذا الفساد الموروث من عقلية عثمانية كانت مشبعة به، والذي انتقل مع تأسيس لبنان الكبير كوجه جديد للسلطة القديمة، حيث ظهرت الزبائنية السياسية، والقضاء لم يكن خارج هذا النسيج، بل جزءًا منه. ولكن تبقى المسؤولية عن فساد القضاء تشاركية بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
نُدرك جيدًا حدود مسؤولية السلطة القضائية، فنسأل عن دور السلطتين التشريعية والتنفيذية في ترسيخ استقلال القضاء. فيأتي الجواب: «السلطة التشريعية معنية بإقرار قانون يحمي استقلالية القضاء ويحصّن قراراته. ولو كان هذا القانون موجودًا، لما أُتيح لأحد تعطيل التشكيلات القضائية عام 2020. أمّا السلطة التنفيذية، فهي مسؤولة عن احترام القانون لا الالتفاف عليه».
ويذكّر هنا بسابقة وضع الرئيس السابق ميشال عون التشكيلات القضائية في أدراج قصر بعبدا، من دون توقيع.
نسأل الرئيس عبّود عن موقفه اليوم، من تلك السابقة، فيقول بحزم: «الرئيس ميشال عون امتنع عن توقيع المرسوم. وبرأي دستوريين، ما فعله غير مُسند قانونًا».
وماذا عن كونك دون سواك، من اختار الرئيس السابق ميشال عون أن يذكره بالاسم في يومه الأخير في القصر الجمهوري؟
يجيب دون تردد: «لم يكن محقًّا ولا ريب. لكن، فلنترك للتاريخ والدستور والقانون أن تقيّم تلك المرحلة».
وماذا عن الاتّهامات بإقصاء «قضاة العهد» في حينها دون سواهم؟
يجيب بلهجة حازمة: «في القضاء، لا وجود لمحازبين. القاضي يُقاس بمناقبيته وبأدائه».
نسأل بتأنٍ: هل راودك الندم يومًا على مواجهتك الرئيس ميشال عون بالقانون، فيما الكلفة كانت سنوات من التكبيل السياسي؟
يجيب بجرأة وصدق: «راودتني الفكرة، نعم. لكن كلّما عدت إلى ذاتي، أدركت أنّه في لحظة القرار، لم يكن أمامي سوى أن أتّخذ ما يمليه علي ضميري، ولا خيار آخر». ويضيف: «لم يكن في مقدوري أن أفعل غير ما فعلت. لو كنت قبلت بتدخّل الرئيس عون في التشكيلات القضائية، لكنت شرّعت التدخّل السياسي في القضاء، بينما قضيتي فصل القضاء عن السياسة. وقد أثبتت التجربة، خاصةً لناحية أداء بعض القضاة، صحّة ما كنّا نعمل عليه». ويضيف: «هناك تقرير يوثّق خمس سنوات من الأزمات، من 2019 حتى 2024.
الرئيس الأوّل الذي عاصر عهدين رئاسيين خلال ولايته في رئاسة مجلس القضاء الأعلى، يميّز بين عهد ولّى، وعهدٍ أتى: «اليوم هناك سلطة ترغب بوضع يدها معنا في محاولة للبناء، بينما سلطة الأمس كانت لديها أولويات أخرى».
يثمّن زيارة رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى قصر العدل، ويرى فيها ما يتجاوز الإطار البروتوكولي، ويسأل: «هل كان مضطرًا ليزورنا ويشد على أيدينا؟». ثم يضيف: «لا بد من التوقّف عند رمزية هذه الزيارة. فهي تقول بوضوح إنّ الرئيس والقضاء في مشروع واحد هو مشروع بناء الدولة»، ويعتبرها «لحظة فاصلة بين عهد حاول مد يده على القضاء، وعهد آخر يضع يده بيد القضاء، لترميم ما تهدم».
لدى الرئيس الأوّل فائض من التفاؤل: ثمّة تضافر حقيقي في الجهود بين رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ووزير العدل، ومجلس القضاء الأعلى، لرفع السمو بالقضاء. والأهمّ أنّ الأربعة، على الموجة ذاتها، يتقاطعون عند نقطة مركزية: بناء قضاء مستقل وفاعل يحظى بثقة المتقاضين والمواطنين».
بكثيرٍ من الثناء، يعلّق عبّود على الحيادية التي يمارسها رئيس الحكومة، القاضي نوّاف سلام: «قال بوضوح إنّه لن يتدخّل في القضاء ولا في التشكيلات القضائية، والتزم بكل كلمة قالها التزامًا كاملًا، وهذا موقف يُحترم، ويجب أن يقدّره رئيس مجلس القضاء الأعلى».
أمّا علاقة وزير العدل عادل نصّار بمجلس القضاء الأعلى، فيضعها الرئيس الأوّل في إطار التعاون المطلق، ويقول باقتضاب معبّر: «نتعاون ونتكامل».
انطلاقًا من هذه الروحية الجديدة، ينتقل الحديث إلى التشكيلات القضائية الجديدة، التي يصفها القاضي عبّود بأنّها «تأسيسية لقضاء جديد». ويضيف: «لا أبحث عن إطلاق الشعارات، كما لا أرغب في تبخيس الواقع. ما قمنا به في مجلس القضاء الأعلى هو وضع معايير موضوعية للتشكيلات، التزمنا بها بالكامل، رغم أنّها غير منصوص عليها صراحة في القانون».
وهل جاءت التشكيلات انتصارًا للعدلية وحدها، أم ثمرة لتقاطع مع السياسة بعدما علقت على حبال بعض التدخلات السياسية؟
يجيب بحزم: «الحديث عن تداخل قضائي ـ سياسي هو أمر غير صحيح وغير مطروح».
وماذا عن الحديث المتداول عن تدخلات سياسية لرئيس مجلس النواب نبيه برّي ووزير العدل عادل نصار؟
«وزير العدل له اختصاصات وصلاحيات معيّنة في التشكيلات، لكنّ المسؤولية الكاملة عن كلّ اسم ورد في هذه التشكيلات تقع على عاتق رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى. هذه التشكيلات هي نسخة منقّحة لتلك التي أوقفها الرئيس ميشال عون، مع إدخال بعض التحسينات، وسنقيّم أداء كل قاضٍ ضمن مهلة ستة أشهر، وسنحاسب على أساسه». ويضيف: «رئيس مجلس القضاء الأعلى يُحاسِب ويُحاسَب. يُسائل ويُساءَل».
أمّا في ما يتعلّق باتّهامه بمسايرة الرئيس برّي، يجيب على السؤال بسؤال: «عن أيّ مسايرة نتحدّث، وكلّ التشكيلات جرت بكل حرية وبالاستناد إلى المعايير الموضوعية التي وضعها مجلس القضاء الأعلى؟ ثمّ، هل هناك اسم واحد شابته شبهة فساد مالي، أو انحراف في الأحكام، أو تساهل في الأداء، أو كسل، وكوفئ في هذه التشكيلات؟ إن وُجد، فليسمّ لنا».
نسأل: هل المدّعي العام المالي الجديد، القاضي ماهر شعيتو، سيسلك مسارًا مختلفًا عن سلفه القاضي علي إبراهيم؟
يردّ بحسم: «التشكيلات القضائية وما سبقها من تعيينات وضعت الرجل المناسب في المكان المناسب. وأنا أقول للقضاء وللقضاة اعملوا لعليكن».
ويضيف: «هناك تعويل على المدعي العام المالي، كما على جميع القضاة». ثمّ يشيد بقرار القاضي شعيتو، الذي ألزم أصحاب الحسابات الذين حوّلوا أموالًا إلى الخارج، بإيداع ما يوازيها في المصارف اللبنانية. ويعلّق: «قرار علمي، لا شعبوي، وقد لاقى تجاوبًا».
ورغم ثبات مجلس القضاء الأعلى على ثوابته، يبقى القضاء، أو ما تبقى منه تحت المجهر. فثمّة أسئلة لا يمكن تجاهلها، تتعلّق بملفّات خمسة مفتوحة على الرأي العام: كازينو لبنان، مرفأ بيروت، رياض سلامة، أمين سلام، وهنيبعل القذافي.
ومع أنّه من غير المنطقي ولا الطبيعي توجيه سؤال مشكِّك حول مصير ملف «جريمة العصر»، حملنا السؤال في زمن تبدّل الأزمنة، وسألنا لماذا تأخّر القرار الظني؟ وسألنا أيضًا عن الرواية التي تروّج بأنّ القرار الظني لن يصدر إرضاءً للرئيس نبيه برّي؟
يجيب بلا تردّد: «ننتظر ونرى».
هل هذا يعني أنّ القرار الظني بات وشيكًا؟
«لا أعلم. القضاء يقوم بعمله، وفي إطار هذا العمل، يُصدر قاضي التحقيق القرار الظني حين تكتمل معطياته. لا أريد أن أتدخّل في ملفّ انفجار المرفأ، ولا في أيّ ملفّ آخر، ومواقفي السابقة جاءت في إطار حماية القضاء لا التأثير عليه. كلّ قاضٍ يتمتّع بكامل الحرية في اتّخاذ قراره وفق الأصول القانونية، وأيّ قاضٍ يُخطئ يُحاسب».
ومن جريمة العصر، إلى سرقة العصر، حيث لا يمكن القفز فوق توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، الذي أوقف بعد سنوات من الحصانة السياسية، ثمّ أُطلق سراحه بأعلى كفالة مالية في تاريخ القضاء اللبناني، في مشهد طرح علامات استفهام حول التوقيت، ومشروعية التوقيف، ومن ثمّ مشروعية إطلاق سراحه.
«ليس من اختصاصي التعليق على قرارات قضائية. لا يوجد قرار قضائي مبرم ولا يقبل الطعن. جميع القرارات قابلة للطعن، سواء في ملفّ مصرف لبنان أو المرفأ أو كازينو لبنان. والدليل أنّ جميعها مطعون فيها».
ويتابع: «المشكلة أنّ المحاكمة باتت تجري في الإعلام بالتوازي مع القضاء. جزء من الإعلام يريد أن يدين. وجزء آخر يسعى إلى التبرير، فيما الأصل أن تكون الكلمة الفصل في يد القضاء».
ننتقل إلى توقيف الوزير السابق أمين سلام، ونسأل: هل أوقف لأنّه بلا ظهر سياسي؟
«القضاء يعمل، ولا ينظر إلى الأغطية، بلّ إلى الملفات المطروحة أمامه».
نسأل عن قضية هنيبعل القذافي، المعتقل السياسي كما يوصف، فيأتي الجواب واضحاً كالشمس: «الطلب في عهدة المحقق العدلي. هو الجهة المخوّلة النظر فيه، وينظر فيه».
الرجل الذي وجّه رسالة إلى قضاة لبنان مباشرةً بعيد تعيينه، وخاطب ضمائرهم، وشاركهم رؤيته في خطّة نهوض وتطوير، أرادها فاعلة، منتجة، وعابرة للحواجز التقليدية، نسأله عن قانون استقلالية القضاء، لمعرفة ما إذا كان يُعوّل عليه في إعادة ميزان العدالة إلى نصابه، أم جاء كسمّ في العسل؟
«أنا لا أذهب إلى هذا التوصيف. ما يمكنني قوله هو أنّ التعديلات في المراحل الأخيرة شابها شيء من التسرّع. الرئيس برّي رفع الجلسة لبضع ساعات محدودة، ولم يكن هذا الوقت كافيًا لإجراء تعديلات مدروسة كما يجب».
تسرّع أم مُرّر القانون في غفلة تشريعية أقرب إلى التهريبة؟
«أضع الأمر في خانة التسرّع، الذي أدّى إلى ظهور ثغرات في القانون».
وهل فُرّغ القانون من ضمانات جوهرية؟
«كلا، فالقانون في خطوطه العريضة جيّد، لكنّه لم يبلغ المستوى الكفيل بإحداث تغيير جوهري وعميق وأساسي في بنية القضاء». ثمّ يعدّد بعض الإيجابيات التي تضمّنها القانون: تثبيت مبدأ المساواة بين القضاة، واعتماد مبدأ انتخابي جزئي في تشكيل مجلس القضاء الأعلى، فضلًا عن جعل التشكيلات القضائية نافذة بمجرّد صدورها عن المجلس، من دون الحاجة إلى توقيع السلطة التنفيذية».
نختم بالسؤال ما إذا كان نادي القضاة قد تخطّى السقوف المقبولة، وتحول إلى كيانٍ أقرب إلى حزب سياسي؟
يوضح أنّه من أوائل الذين طرحوا فكرة إنشاء النادي في لبنان، أسوةً بأندية القضاة في كلّ دول العالم «ولدي عاطفة خاصة تجاهه، لكن كما في كلّ الأمور، الحكم يكون على أساس الأداء، ونترك التقييم لهذا الأداء».
هل صحيح أنّ بعض قضاة النادي يحالون إلى التفتيش من وقتٍ لآخر بهدف التطويع؟
يردّ بحسم: «أكيد كلا. أيّ إحالة إلى التفتيش تكون لها أسبابها ومبرّراتها، ولا علاقة لها بالانتماء إلى أيّ مجموعة أو نادٍ».
نورما أبو زيد -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|