“كيف وصلت من القاعدة لرئاسة سوريا؟” هكذا رد الشرع على سؤال مدير “CIA” السابق
السّيّد الذي قتلوه مرّتين..
حزينة هي بلادنا الموجوعة التي تحتاج دوماً إلى أبطال. وآثمون هم أبطالها المفترَضون الذين لا يصنعون مجدها. ولا يحفظون سكينتها. ولا يرفعون شأنها بين الأمم. تظلّ غصّة الأجيال تلاحقهم. تُعاتبهم. تُحاسبهم. لكنّهم لا يلبثون أن يقفزوا بسرعة البرق من متن التاريخ إلى هامشه. لا يبقى من قوامهم وظلّهم وجبروتهم سوى قليلٍ يرسخ في الذاكرة. والذاكرة ديدنها النسيان.
اذكروا محاسن موتاكم. والميت هنا سيّد كبير. سواء اتّفقنا معه أم لم نتّفق. وجب علينا جميعاً أن نعترف: لقد ملأ الرجل شطراً من الدنيا لا يسعه منها إلّا الجانب الواسع الفسيح. تعرّفنا إليه في باكورة صعوده الصاروخيّ نحو القمّة. ثمّ تجذّرت معرفتنا به وانجذابنا إليه لحظة سقوط نجله في خطوط القتال الأماميّة، ثمّ مع خطابه التاريخيّ في بنت جبيل عقب تحرير الجنوب، ثمّ مع حرب تمّوز، التي رفعته من المرتبة الشيعيّة إلى أربع جهات الأرض، وهذا حدث نادر لم يصل إليه أيّ شيعيّ منذ واقعة “الطفّ” في كربلاء.
هذا الصعود الصاروخيّ قابله هبوط مجنون نحو جحيم بلا قرار. ذات مرّة قال وليد جنبلاط إنّ في طهران من لا يريد لهذه الهالة أن تكبر. فقام بجرّها مرغمةً إلى حضيض أحوالها في شوارع بيروت. كان ذلك قبيل أسابيع من فجيعة السابع من أيّار. وبعد أشهر طويلة من محاصرة السراي وشيطنة المحكمة الدولية المعنيّة بقتل رفيق الحريري. لاحقاً خرج السيّد في صبيحة ذاك اليوم المشؤوم ليعلن عن وجه جديد ووظيفة جديدة: السلاح لحماية السلاح. أمّا الرجل المعمَّم الذي رُفعت صورته في أزهر مصر وفي كلّ عواصم وحواضر العرب، فقد استحال سيفاً مُسلّطاً فوق رقابهم.
زعامة مركّبة
لم يكن الانهيار متوقّعاً أو مستساغاً. فسرديّة السيّد صارت شهيّة وشديدة التأثير بفعل اكتمالها على نحو غير مسبوق. وبفعل حيازتها لكلّ الأسباب الموجبة. من خلفيّة الفقر المدقع واندماجه الاجتماعيّ الأفقيّ مع عوامّ الشيعة الفقراء. إلى النسب الموصوف الذي يصل بالتواتر نحو قمر بني هاشم. إلى بلاغة بيانه وفصاحة لسانه ورشاقة خطابه. إلى التضحية الكبرى بفلذة كبده. نجله هادي الذي سقط من المسافة صفر. في أوّل خطوط الالتحام مع قتلَة الأنبياء.
هذه العوامل جميعها هي الثوابت الصلبة التي طالما رفعت قدر الرجال ومكانتهم مع بزوغ فجر العرب. منذ همَّ أبو الأنبياء بنحر نجله قبل أن يفتديه الخالق بكبش عظيم. إلى النبيّ الأمّيّ الذي امتهن رعاية الغنم وهو من أصفى وأعرق أنساب قريش. إلى سوق عكاظ والمعلّقات التي تدلّت على جدران الكعبة. البلاغة صنو الفروسيّة. والفارس صنو الشاعر. ومن يجمع المجدَين يصير بلا منازع أعزّ العرب.
أصل الزعامة ترسّخ في عميق عقولنا جميعاً. وهي زعامة مركّبة على نحو شديد البساطة والتعقيد. اجتمع فيها ما لا يجتمع عادةً في رجل من الرجال. ثمّ جاء الظرف الاستثنائي بكلّ أدواته، ليرفع هذه الشخصيّة بكلّ مميّزاتها، ويصهرها في بوتقة واحدة، ليعود ويخرجها لنا في مشهديّة تاريخيّة من أحضان سيّدة جبل عامل. يومها وقف الرجل بعمامة سوداء. بسبّابة مرفوعة. بلسان فصيح وصوت مكتمل. قال على مسامعنا بلدغة الرّاء: إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت.
سديد البصيرة كان وليد جنبلاط. أيقن. وقد فاتنا يومها أن نوقن معه. أنّ كبير آيات الله في طهران هاله أن يرى كلّ ذلك وقد تجمّع في رجل من رجاله. مسّه شيء من فطرة البشر. وربّما من غريزتهم. فسارع إلى استعادة زمام الوهج وقد صار في غير حضرته. فكان أن دفع الرجل نحو الخطأ الذي بدأ في شوارع بيروت، وانتهى بمقتلة رهيبة لا قيامة بعدها في شوارع دمشق وأخواتها.
هوى السيّد مذّاك التعثّر الهائل والمهول. كان في قمّة القمّة. ثمّ راح يتدحرج في لعبة اليوميّات والأحقاد والضغائن. فاته يومها أنّ الأسباب الموجبة للزعامة، تُقابلها أسباب فتّاكة للأفول. فالقاعدة أنّ الشيعيّ لا يصير أيقونة في بحر سنّيّ مهما حاول أو سعى أو بلغ. والاستثناء هو الاستثناء. وما لامسه السيّد كان هذا البصيص الخافت من استثناء لا يصير ولا يكون ولا يتكرّر. وهذا بحدّ ذاته كان الخطأ القاتل. فالحالة هنا تُشبه العبث بأصابع المتفجّرات. الخطأ الأوّل هو دائماً الخطأ الأخير.
خديعة تُلمس باليدين
تحوّل السيّد من أيقونة إلى رأس حربة. ورؤوس الحراب حادّة الملمس وقاسية الطباع. تعرّفنا إلى وجهه الآخر. وقد هالنا أن نرى ما رأينا. حتّى شعر الواحد فينا أنّ انقلاباً ما قد طرأ على شخص كنّا نخال أنّنا نحفظه ونعرفه. قال البعض منّا إنّه من تداعيات الارتصاف المقيت في لعبة داخليّة شديدة القسوة والفتك والتعقيد. وقال آخرون: بل هو الوجه الحقيقيّ لمشروع ظلّ خافياً حتّى يحين أوانه. وها قد حان.
كنّا نقف تماماً بين القولين. نبحث عن قول ثالث فلا نجد له أيّ أثر. نبحث عن أسباب تُخفّف وطأة مُصابنا. لكنّ الخيبة أخذت طريقها إلينا. مرّة تلو مرّة تلو مرّة. لا نزال نذكر كلّ كلمة وكلّ خطاب وكلّ انزلاق نحو اللامكان. صوته ولغة جسده وسبّابته المرفوعة في وجوهنا. شعرنا بمرارة فريدة. ليس فقط لأنّ الرجل صار على النحو الذي صار عليه. بل لأنّنا لمسنا الخديعة لمساً باليدين. لكنّنا رفضنا أن نُصدّق أو نعترف.
في مثل هذه الأيّام من العام المنصرم. تسمّرنا مذهولين أمام شاشات صمّاء. لا نستمع ولا نقرأ ولا نرى. بل نستحضر بحزن عميم ذاك الوجه الذي أحببناه كثيراً وكرهناه كثيراً. كانت ثمّة رهبة هائلة لهذا الموت الفظيع. لكنّنا أدركنا سريعاً، أنّ مئة طن من المتفجّرات لم تقتل من الرجل بقدر ما قتل منه ذاك العرّاب الذي يجلس في طهران.
ها قد أمسى اليوم ليس بينه وبين الله أحد. نذكره ثمّ نتركه لثقوب الذاكرة. لكنّنا سندوّن ملحوظة صغيرة على هامش دفتر العزاء: هذا الرجل لم يمُت حين مات. هذا الرجل قُتل مرّتين.
قاسم يوسف - اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|