تل ابيب وواشنطن ترفعان وتيرة التصعيد تجاه لبنان...انفجار وشيك؟
نهر البردوني يجف... وزحلة تخسر رئتها المائية
خفَت صوت نهر البردوني في زحلة هذا العام أيضًا، شأنه شأن معظم أنهر لبنان التي تأثرت بالعوامل المناخية. إلا أن حضوره في وجدان الزحليين لم يتراجع. فالنهر الذي تخطت شهرته حدود الوطن، يشكّل في ثالث أكبر مدن لبنان أكثر من مجرىً مائي: هو رئة زحلة، وركيزة مقاهيها، وخزان ذاكرتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الممتدة. ومن هنا يبدو أسف الزحليين عليه مضاعفًا، وسعيهم لإعادة بريقه مفهومًا، حتى ولو في ظل ظروف معيقة، طبيعية وبشرية.
شح أمطار
لم يكن جفاف شتاء 2024 حليفاً جيداً لمعظم أنهر لبنان هذا العام. وعليه لم تكن "عيانات" الأمطار والثلوج كافية لتفجير ينابيع البردوني على النحو اللازم، فبدا سريان المياه في مجراها خجولاً منذ نهاية فصل الشتاء، قبل أن تجف المياه كلياً في بعض المواقع، ويغزوها الأخضر البري الذي نبّت فيها بكثافة.
وعليه فقدَ البردوني حتى اليوم معظم أجزاء مجراه الممتد على طول المدينة، وما تبقى من مياه فيها لم يعد يعطي "لذة وبرودة" كما تقول كلمات أغنية "زحلة يا دار السلام" التي يكررها الزحليون بوصفها نشيداً خاصاً. لتتراجع مع صمت البردوني طقوس الزحليين في التسكع على ضفافه، وتتحول وقوفًا على أطلال نهر، تتكسر معه الذكريات كما القلوب. في الوقت الذي لا يعتب فيه الزحليون على الطبيعة، ورزنامتها التي يأملون أن تغدق لبنان بخيراتها مجدداً في المواسم المقبلة؛ إنما على ما اقترفته يد الانسان بحق هذا النهر كما بمعظم المجاري المائية، فحولته مستنقعات شاهدة على "شفط" ما تبقى من مياهه، إما لتأمين الاحتياجات التشغيلية في بعض المصانع، أو لري المزروعات، في مقابل استسهال تحويله الى مستوعب للنفايات الصلبة، وفي بعض الأحيان أيضاً مصب لمخلفات الصرف الصناعي والمنزلي.
تلوث وجفاف
"اكتبوا عن هذا وافضحوه" قال أحدهم متسائلًا "مش حرام البردوني هيك يصير فيه". لم يكن الرجل يشير إلى تراجع كمية المياه؛ إنما لكمية التلوث التي انكشفت إثر جفاف النهر.
إلا أن الزحليين تعايشوا مع هذا الواقع منذ تسعينيات القرن الماضي، حين غارت كميات المياه التي كانت تتدفق في نهرهم، نتيجة أخطاء فنية ارتُكبت في مشاريع كان يُفترض أن تغني النهر بالمياه. ولكنهم على الرغم من تسليمهم لواقعه حينها، لم يسامحوا من وما تسبب بذلك، حتى لو أغرقت الحقائق في مجرى النهر، ولم يحاسب عليها مسؤول. وعليه لم يعد لدى الزحليين أمام انتكاسة نهرهم الكبرى، سوى التعويل على كرم الطبيعة الحليفة لموقع مدينتهم، علّها تعيد وصلهم بخيرات جبل صنين ومخزونها الجوفي، ليتدفق بغزارة في شريان زحلة المائي مجددًا.
وفي الانتظار، لا يتوقف الزحليون عن التحدث عن بردونيهم بالفخر نفسه الذي يملأ قلوبهم تجاه كل ما يحيط بمدينتهم. فحبّ زحلة بكل تفاصيلها مضخَّم عند أهلها، وهذا الحب قادر على إقناع الزائر بأن النهر هدار فعلاً، حتى لو لم يعد كذلك.
شريان زحلة
بالنسبة لوليد خلف أحد أصحاب مقاهي البردوني في "الوادي الذي شكل جاذباً سياحياً منذ نشأته، "أياً كان واقع البردوني تبقى زحلة نصف لبنان وقلبه، وشريانها الأساسي هو البردوني الذي يغذّيها كما تغذّي الشرايين الجسد بالدم. ولذلك يقول "من لا يزر زحلة ويقصد بردونيها، لا يكتمل وجوده في لبنان."
لا مبالغة في هذا الحب وفقاً لخلف، فالنهر كما يقول كان أسرع الأنهار، تتدفق مياهه باردة ونظيفة تمامًا كغيرة أهل زحلة. ويتابع شارحًا "عندما كنّا صغاراً، كنّا نملأ المياه مباشرة من "نبعة عين البخاش"، أحد روافد النهر، ونشربها مباشرة، وكان يقال عنها أنها كدموع الديك، صافية وباردة." ويشبه خلف جفاف النهر اليوم بحالة البلد، آملا أن ينبعث مجددًا كالأمل بانبعاث لبنان مجدداً.
تدور عقارب مدينة زحلة على وقع سمعة طيبة نشأت حول البردوني في مقاهيها حاليًا. ووفقاً لجان عرابي أحد أصحاب أشهر المطاعم التي نشأت على ضفاف البردوني منذ منتصف القرن الماضي، "لم تأت هذه الشهرة عن عبث، وهي ليست مرتبطة بحلاوة النهر وجمال انسيابه فقط؛ بل صنعها أهلنا بما تميزوا به من حسن الضيافة ولقمة طيبة وجلسة حلوة. آسفاً لكون زحلة فقدت مقومات الجذب التي راجت على نحوٍ أكبر في مدن أخرى حالياً". ويشرح عرابي أنه عندما اكتسبت زحلة شهرتها مع البردوني، لم يكن في لبنان كله مطاعم تقدم المازة بعد، فمن زحلة انطلقت الأطباق اللبنانية الى سائر مدن لبنان.
ذاكرة البردوني
يخرج الفرد بريدي، الرجل المخضرم الذي يعرف برأيه النقدي، من أرشيف ذاكرته صورة لمجموعة رجال جلسوا على ضفة النهر وسط مناسف الثلوج، ليؤكد علاقة الارتباط بين زحلة وبردونيها، والتي لا تعيقها أية ظروف وعوامل.
فيروي لنا من ذاكرته كيف كان أطفال المدينة يمضون الصيف بالـ"غضبيط" وهو عبارة عن بركة مياه كانوا يبنون سدودها من حجارة النهر والأخشاب التي يجرفها معه من المرتفعات، ويعيدون ردمها في فصل الشتاء.
حينها لم يكن هناك وجود للمقاهي؛ إنما كانت الموائد تفترش على "الغيضة"، وهي ضفة من التراب والحجر، توضع عليها أحياناً الطاولات والكراسي والقش، وتتجمع فيها حواضر البيت من المأكولات، ومنها استوحت المطاعم لاحقاً أطباقها التي باتت تعرف بالمازة.
يشرح البريدي كيف كان النهر يصل من مرتفعات قاع الريم، محملاً بمخزون الينابيع المتفجرة من جبل صنين، وكانت مياهه عذبة جداً وباردة. وما أن يصل الى منطقة وادي العرائش حتى تفترق مياهه على عدة "سكورة" من سكر، لتتوزع على الأحياء، فيذهب خط منها الى الراسية، وآخر الى البربارة الميدان. ولسرعة تدفق المياه في هذه "التفرعات" نشأت الطواحين التي كانت تدار بقوة دفعها، قبل أن تصب مجدداً في مجرى النهر. فكان هناك مطحنة عند مخرج منطقة المقاهي باتجاه وادي العرائش، وآخر عند مدخلها، وآخر في حارة التحتا، ما زالت بعض أثارها قائمة. وبين هذه الطواحين هناك معمل الثلج الذي كان يتغذى من مياه البردوني، ويولد الطاقة لتصنيع الثلج بقوة دفعها أيضاً، وذلك قبل أن تُنشئ زحلة أول معمل لإنتاج الطاقة الكهربائية بقوة دفع المياه في العام 1926.
ولشدة عذوبة هذه المياه ونظافتها، وفق بريدي، كانت الناس تشرب المياه مباشرة من النهر، أو حتى من السكر. حتى أنه عندما نشأ خزان تجميع لمياه المدينة في العام 1907، اضطر المعنيون أن يؤمنوا المياه أولاً في مواقع عامة عرفت بالحواويز، لأن الناس رفضوا ان يشربوا المياه التي تصل بيوتهم بقساطل.
عامل جذب سياحي
من الطبيعي أن يكون تدفق النهر في أيام عزه عامل جذب سياحي، أحسن المحافظ نصري سلهب في خمسينيات القرن الماضي إدارته، فنشأت في عهده الجسور المضاءة والتي كانت تنعكس بنورها على سطح مياه النهر، لتزيد المشهد جمالاً.
فقدت زحلة حالياً كل ذلك. علمًا أن تراجع دور النهر سبق تبدل العوامل المناخية، ليتزامن مع النهضة الصناعية في مرتفعات المدينة، والتي لم تُواكَب ببنىً تحتية تراعي سلامة البيئة ونظافتها، فحُولت أقنية الصرف الصناعي كما المنزلي إلى النهر لسنوات. منذ ذلك الحين يؤكد بريدي أن مياه النهر لم تعد كالسابق.
ويستند في ذلك الى فحوصات أجراها أحد أصحاب مزارع سمك الترويت، الذي لاحظ نفوق أسماكه كلما كبرت، قبل أن يكتشف أن السبب كان في افتقادها للمياه العذبة، التي لا يمكن للترويت أن يعيش خارجها. كما يقتبس بريدي عن الدكتور نقولا ألوف الناشط الزحلي المتخصص في علم الأحياء، الذي كان يجري اختبارات دائمة لمياه البردوني قبل وفاته، فيقول البريدي "عندما سألته في أحد المرات عما وجده في المجرى، قال لي "نهر ميت"، حينها كما يقول كان يشير الى اختفاء الأحياء المائية مع مكونات المياه النظيفة في البردوني".
فقدان الوظيفة الاقتصادية
باشرت بلدية زحلة في أول مجالسها المنتخبة بعد اتفاق الطائف برفع التلوث المنزلي عن النهر تدريجياً، ثم استكملت الجهود عبر مصلحة الليطاني لوقف التلوث الصناعي. ومع ذلك بقي عرضة لثغرات يكشفها بين الحين والآخر تبدل لون النهر، وحتى رائحته.
في المقابل يرى البريدي أن البردوني فقد وظيفته الاقتصادية. "لم تعد قوة دفعه تسمح بتوليد الكهرباء، المطاحن على ضفافه تحولت نحو المكننة، معمل الثلج أقفل. ولم يعد يحتفظ سوى ببعض المقومات السياحية".
ليبقى المخزون المتبقي من البردوني حاليًا مجرد "نوستالجيا" يحسن أبناء المدينة استثمارها، للحفاظ على مكانتها السياحية، على الرغم من تبدل مفاهيم السياحة والخدمة المطعمية في زحلة، وتوسعها الى أبعد من حرم النهر وسحره، الذي لم يعد موجودًا على ما يبدو سوى في ذاكرة الزحليين ووجدانهم.
لوسي بارسخيان -المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|