الصحافة

إشكالية العلاقة بين السيادة اللبنانية واستقبال المبعوثين الدبلوماسيين

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

منذ أن أصبح لبنان أسير اتفاق القاهرة (1969) ثم شبيهه بعد اتفاقية قاهرة متجددة (6/2/2006)، لم تعد زيارات الموفدين الدبلوماسيين الأجانب تجري وفق الأصول السيادية الطبيعية. بل باتت خاضعة لفوضى أرساها هذان الاتفاقان، ورهينة التوجّس من التظاهرات أو "اعتراضات" قوى الأمر الواقع المسماة "شعبية"، فأخذت الدولة اللبنانية تتعامل مع الزيارات الدبلوماسية بترتيبات استثنائية، بعيدة عن منطق السيادة.
 
أحدث مثال على هذه الإشكالية هو ما حصل في 27 آب 2025 حين كان من المقرر أن يزور الموفد الأميركي توم باراك منطقتي الجنوب والخيام. غير أنّ تظاهرات احتجاجية قطعت الطريق وأجبرته على إلغاء الزيارة. سواء جاءت هذه التظاهرات ردًا على تصريحاته في قصر بعبدا، التي اعتُبرت إهانة للإعلاميين، أم اعتراضًا على الموقف الأميركي المؤيد لقراري الحكومة اللبنانية (5 و7 آب 2025) بشأن استعادة الدولة وتكليف الجيش إعداد خطة وجدول زمني، فإنّ النتيجة واحدة: غياب السيادة اللبنانية عن حماية المسار الطبيعي للزيارة.
 
هذه الحادثة لم تكن استثناءً، بل نموذجًا محدثًا لواقع لبناني مزمن. فالتاريخ حافل بأمثلة مشابهة: في 16 كانون الأول 1973، وبعد حرب تشرين، اضطر وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى الهبوط بطائرته في قاعدة رياق الجوية بدل مطار بيروت، بسبب احتجاجات فلسطينية–لبنانية تقودها منظمة التحرير الفلسطينية على طريق المطار في خلدة. واجتمع بالرئيس سليمان فرنجية في نادي الضباط بالبقاع بدل قصر بعبدا. 
 
الموفد الأميركي من أصل لبناني فيليب حبيب (1981–1982)، كان يفترض أن يلتقي الرئيس الياس سركيس في بعبدا، لكن تهديدات القصف والوضع الأمني على الطرق فرضت نقل اللقاءات في مناسبات عديدة إلى مقرات بديلة. 
 
وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز زار بيروت عام 1983 وسط ترتيبات استثنائية بعد تفجير السفارة الأميركية ومقر المارينز، فعُقدت اجتماعاته في مواقع محصّنة لا في المؤسسات الرسمية. 
 
أما وارن كريستوفر (1993–1996) فكان يفضّل دمشق كمحطة أساسية، فيما اقتصرت زيارته إلى بيروت على طابع رمزي بروتوكولي قصير. منذ ذلك الوقت بات الملف اللبناني جزءًا ملحقًا بالملف السوري وليس ملفًا مستقلاً. وحين زار لبنان خلال توقيع تفاهم نيسان 1996 جاء من دمشق برًا إلى شتورة برفقة غازي كنعان للاجتماع بالرئيسين رفيق الحريري ونبيه بري في بارك أوتيل شتورة. 
 
بعد 2005 و2006، تكررت المشاهد نفسها مع موفدين أمميين كـتيري رود-لارسن وجيفري فيلتمان، حيث كانت تحركاتهم تجري وسط احتجاجات واعتراضات، وتحت حماية استثنائية.

تكشف العودة إلى أرشيف العلاقات الخارجية الأميركية (FRUS 1969–1976) عن تفاصيل اجتماع كيسنجر–فرنجية، حيث أصرّت واشنطن على أن يلتزم لبنان بمنع أي عمليات عسكرية انطلاقًا من أراضيه قد تعرقل التسوية التي كان كيسنجر يسعى إلى هندستها بين القاهرة وتل أبيب ودمشق. في المقابل، أكد الرئيس فرنجية أن لبنان لا يسعى إلى مواجهة عسكرية، لكنه يعاني ضغوطًا فلسطينية–سورية من جهة، وإسرائيلية من جهة أخرى. إستنادًا إلى ما سبق يمكن ان نستنتج: 
 
1. فقدان السيادة وتعدد مصادر القرار: الزيارات الدولية في لبنان كانت دائمًا عرضة للتغيير في الزمان والمكان بسبب وجود قوى مسلّحة خارج الدولة، سواء فلسطينية، ميليشياوية، سورية، إسرائيلية أو إيرانية. أسقط هذا الواقع عن لبنان القدرة على تأمين بيئة دبلوماسية طبيعية.
 
2. غياب الحياد هو مصدر أزمات: كل كوارث لبنان ارتبطت بتخليه عن سياسة الحياد، وتحوله إلى ساحة صراع إقليمي ثم ساحات لتعطيل المفاوضات العربية–الإسرائيلية. 
 
3. الموقف الأميركي الثابت: لم تتدخل واشنطن لحماية السيادة اللبنانية مباشرة، بل اعتبرت أن المعضلة داخلية ومسؤولية اللبنانيين أنفسهم. 
 
4. ارتباط الظاهرة بانعدام الأمن: غياب حصرية السلاح بيد الجيش جعل الأمن هشًا، وأتاح لقوى غريبة أن تفرض إيقاعها على الحياة السياسية والدبلوماسية.
 
5. وعي اللبنانيين: إن التصريحات الجدلية التي أطلقها أحد الدبلوماسيين مؤخرًا (11/7/2025) محذّرًا من ان لبنان يواجه تهديدًا وجوديًا بإعادة الملف اللبناني واعتباره ملحقًا وتابعًا للملف السوري إذا لم يتخذ خطوات لاستعادة الدولة، هذا التحذير له أساسه في التعاملات السابقة. فهل يعي اللبنانيون ويغلقون ملفهم قبل ان يعودوا تابعين وملحقين؟!
 
حادثة منع باراك من زيارة صور والخيام والجنوب قد تكون عابرة، لكن الخطر يكمن في أن تتحول إلى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الانتهاكات للسيادة اللبنانية. المطلوب ليس فقط معالجة حادثة بروتوكولية، بل إعادة بناء مفهوم السيادة على قاعدة الحياد، حصرية السلاح، واحتكار الدولة وحدها للعمل الدبلوماسي، كي لا يبقى لبنان واللبنانيون موضع ازدراء العالم.
 
وحدها هذه الركائز يمكن أن تعيد للبنان صورته الطبيعية كدولة تستقبل الموفدين لا كأرض متنازع عليها بين دويلات رديفة تسعى إلى الحلول مكان الدولة الشرعية الرسمية.

طوني عطالله -النهار

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا