إقتصاد

تصحيح الرواتب ممر إلزامي الى الإصلاح والتعافي

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب العميد الدكتور غازي محمود : 

"لا دولة من دون موظفي الدولة"، شعار رفعه مؤخراً موظفو القطاع العام في إحدى تظاهراتهم، للمطالبة بتصحيح رواتبهم التي تراجعت إلى مستويات غير مسبوقة. فالزيادات التي أُقرّت تحت مسمى "مساعدات اجتماعية وحوافز مالية" لم تُعوِّض سوى جزءاً يسيراً مما خسره الموظفون منذ انهيار العملة الوطنية اعتباراً من عام 2019. كما أن هذه الزيادات على ضآلتها، لم تُدمج في أساس الراتب، ما سبّب إجحافاً وألحق ظلماً كبيراً بحق المتقاعدين الذين تبخرت تعويضاتهم التقاعدية بفعل التضخم وارتفاع تكلفة المعيشة في لبنان.

ورغم مزاعم الحكومات السابقة العمل على تصحيح رواتب موظفي القطاع العام وعناصر الاسلاك العسكرية والأمنية، فإنها بقيت تراوح مكانها بحجة القيود التي يفرضها صندوق النقد الدولي (IMF) بعدم زيادة الانفاق على الرواتب، وضرورة ربطها بالتعافي الاقتصادي. ومع أن الحكومة الحالية جدّدت الوعود بإعداد سلسلة رواتب جديدة، جاءت موازنة عام 2026 خالية من أي زيادة على بند الرواتب والأجور، باستثناء رفع مخصّصات "السلطات العامة وملحقاتها" ويُقصد بها الوزراء بالإضافة الى مخصصات المستشارين.

تداعيات تأخير تصحيح الرواتب 
وقد انعكس عدم تصحيح الرواتب على انتظام الدوام الرسمي المنصوص عليه في المادة 23 من قانون موازنة 2017، الذي تقلّص إلى أربعة أيام في الأسبوع بدلاً من خمسة، ولغاية الساعة الثانية والنصف بعد الظهر بدلاً من الثالثة والنصف، وفي بعض القطاعات الى اقل من ذلك. كما فُتح الباب أمام الموظفين للقيام بأعمال تجارية أو صناعية أو حرفية مأجورة خلافاً لقانون الموظفين، وهو ما انسحب أيضاً على العسكريين خلافاً لقانون الدفاع الوطني الذي يمنعهم من مزاولة أي عمل مأجور.

هذا الواقع دفع الحكومات المتعاقبة منذ الأزمة، إلى القبول بهبات مالية خارجية لصالح الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، للتخفيف من معاناة عناصرهما الذين وصلوا الى حدود الفقر. ورغم أن هذه الهبات بدت مبرَّرة في الأشهر الأولى للأزمة نهاية عام 2019 وبداية عام 2020، فإن استمرار الاعتماد عليها حتى اليوم يُشكل وصمة عار على جبين الحكومة والمجلس النيابي، ودليلاً على تقاعسهما في إيجاد حلول جدّية لأزمة لبنان المالية والاقتصادية.
وعلى الرغم من انقضاء قُرابة الست سنوات على الأزمة وتعثر الدولة، لا تزال مسألة تصحيح الرواتب تتأرجح بين الخوف من تداعياتها على سعر الصرف وربطها بمسار التعافي الاقتصادي ليُضاف عليها اليوم قيود صندوق النقد الدولي الآنفة الذكر. إلا أن تصحيح الرواتب والأجور ترفع من القدرة الشرائية للموظفين وتنعكس حكماً ارتفاعاً في الطلب على السلع والخدمات، وزيادةً في الاستهلاك تُسهم في تحريك القطاعات الإنتاجية والاقتصادية المختلفة، وبالتالي تحقيق التعافي الاقتصادي. 

فالرواتب والأجور ليست مجرد تكلفة تدفعها الدولة لموظفي القطاع العام، بل هي ثمن مساهمة هؤلاء الموظفين في توفير الخدمات العامة، من دون موظفين مدنيين وعسكريين لا وجود للقطاع العام او لخدماته. وما من اقتصاد يُمكن أن ينهض أو يستعيد عافيته في غياب الدولة الفاعلة والقادرة.

لا دولة دون موظفين
والدولة ليست مجرد كيان قانوني أو إطار نظري، بل هي كيان حيّ يكتسب قوته من جيشه وقواه الأمنية، الذين يشكّلون صمام الأمان وضمانة استقرار المجتمع. فبدونهم تفقد الدولة هيبتها وتضعف قدرتها على حماية حدودها وسيادتها وضبط أمنها الداخلي، وهو ما يُعد الشرط الأول لخلق بيئة آمنة للاستثمار والعمل والإنتاج. كما أن وجود جيش قوي وأجهزة أمنية فعّالة لا يحفظ الأمن فحسب، بل يوفّر الطمأنينة للمجتمع ويُعيد ثقة المواطنين بوطنهم والقدرة على بناء مستقبلهم فيه.
وبالموازاة، يبرز الدور الحيوي لموظفي القطاع العام الذين يُسيّرون المؤسسات الإدارية والخدماتية والقضائية للدولة، ويؤمّنون الإطار القانوني والتنظيمي الذي تجعل من الدولة بيئة جاذبة للاستثمارات ومهيّأة للنمو وتحريك عجلة الإنتاج. هؤلاء هم المحرك اليومي لعجلة المرافق العامة، وهم الذين يجعلون الدولة حاضرة في حياة الناس اليومية، ودورهم يتجاوز الوظيفة الإجرائية إلى تكريس الدولة كضابط إيقاع للحياة العامة والنشاط الاقتصادي. دون أن يعني ذلك اهمال قيام الحكومة الالكترونية، وتوفير المعاملات الإدارية من خلال الشبكة الانترنت بما يسهّل شؤون المواطنين ويواكب التطور العصري.

وهكذا يتكامل عمل الجيش والقوى الأمنية مع جهد موظفي القطاع العام، ليشكّلا معاً العمود الفقري لقيام الدولة واستمراريتها، ويضعا الأساس لأي عملية إصلاح اقتصادي أو اجتماعي حقيقي. فلا إصلاح اقتصادي ولا تعافٍ اجتماعي ممكن من دون أمن راسخ وإدارة عامة فعّالة. بناءً عليه فإن تصحيح الرواتب لا يُعتبر رفاهية بقدر ما هو شرط أساسي لتمكين مؤسسات الدولة من أداء دورها وضمان استمرارها.
وبينما تستمر أزمة لبنان المالية والاقتصادية فصولاً، وللسنة السادسة على التوالي، ثمة سؤال يُطرح: كيف يمكن للدولة أن تستعيد دورها الحيوي بينما موظفوها وعسكريوها يتقاضون رواتب لا تكفي لتغطية أبسط نفقاتهم الأساسية؟ سيما وأنه حين تتعثر الدولة، ينعكس ذلك مباشرة على الاقتصاد الذي يفقد ركائز نهوضه ومقومات استمراره. 

ولبنان ليس البلد الوحيد الذي انهار اقتصاده الوطني وانهارت معه عملته الوطنية بنسبة فاقت الـ %95، الأمر الذي انعكس مباشرة على رواتب موظفي القطاع العام التي فقدت قيمتها الشرائية بالقدر نفسه، وربما أكثر. غير أن لبنان يبقى البلد الوحيد الذي استمرت فيه الأزمة على مدى ست سنوات متواصلة من دون خطة حكومية واضحة للحد من تداعياتها ووقف مسار الانهيار، فيما يكتفي المسؤولون بالدوران في حلقة مفرغة، عاجزين عن مقاربة الأزمة بما يقتضيه الواقع والوقائع من جدّية ومسؤولية. 

في المقابل، إن استعادة الدولة لدورها المحوري وزيادة فعاليتها لا يمكن أن يتحققا إلا عبر تفعيل أدواتها التنفيذية في مختلف القطاعات، أي تفعيل حضور موظفي القطاع العام في مراكزهم وتأدية الخدمات للمواطنين. غير أن المعضلة تكمن في أن دخل هؤلاء بالكاد يغطّي نفقاتهم الاساسية وكلفة انتقالهم إلى مراكز عملهم، ما يجعل من بقاء الأجور على حالها سبباً لشل عمل الإدارة العامة، وينعكس سلباً على دورة الإنتاج والخدمات، ويُعطّل كل محاولة استثمارية.
أما العسكريون فلم ينقطعوا عن تأدية واجبهم الوطني في الحفاظ على الأمن والاستقرار رغم تراجع قيمة رواتبهم بشكل كارثي، وتكبدهم المشقات والمخاطر وعناء الانتقال الى مراكز خدمتهم، إضافة إلى تراجع مستوى بعض الخدمات الأساسية وفي طليعتها التغذية في مراكز الخدمة، الأمر الذي ضاعف من أعبائهم المالية. وعلى الرغم من ازدياد الأعباء الملقاة على عاتق الجيش والقوى الأمنية، يستمر التقتير في إقرار الزيادات التي يُسابقها التضخم وارتفاع الأسعار، لتتفاقم معها معاناة العسكريين وعائلاتهم يوماً بعد يوم.

تصحيح الرواتب مدخل الى الإصلاح وطريق التعافي الاقتصادي
إن أزمة الأجور في القطاعين المدني والعسكري لم تعد قضية مطلبية فحسب، بل باتت عائقاً في طريق نهوض الدولة نفسها، لأن الدولة من دون إدارة فاعلة وقوى امنية وجيش قادر على الصمود ليست سوى هيكل فارغ يفتقد مقومات الاستمرار. ولا بد من تصحيح الرواتب والأجور على قاعدة دمج كل المساعدات والحوافز المالية في أساس الراتب، والعمل على وضع سلسلة رتب ورواتب جديدة مع اعتماد سلم متحرك للأجور مرتبط بمؤشر غلاء المعيشة، واحتساب التعويض العائلي عن الزوجة والاولاد في ضوء نسبة التضخم السنوية المتراكمة.

فالاقتصاد لا يمكن أن ينهض فيما العمود الفقري للإدارة العامة والأمن الوطني يعيش على حافة الفقر، وأي إصلاح لا يُعالج أوضاع القطاع العام أو يتجاهل أهمية تحصين الأسلاك العسكرية، سيبقى مجتزأً وغير قابل للنجاح. والإصلاح المالي يجب أن يبدأ بإعادة الاعتبار لمفهوم الأجر اللائق الذي يضمن العيش الكريم ويحفّز على العمل والإنتاجية. 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا