الصمد استذكر قيم الحرية والعدل والمساواة في ذكرى المولد النبوي
العودة الى المدارس تتحوّل الى كابوس: التعليم من حق للجميع إلى حلم بعيد المنال
مع بداية كل عام دراسي، تتحول البيوت اللبنانية إلى ساحات قلق وجدل وحسابات دقيقة. ليست المشكلة في التأهب النفسي للعودة إلى المقاعد، بل في الاستعداد المالي الذي صار أكبر كابوس يطارد الأهل. فمن الأقساط التي تتضاعف، الى الكتب التي تُباع بأسعار تفوق الخيال، والزي المدرسي الالزامي، والقرطاسية التي غدت سلعة رفاهية، يصبح الدخول إلى المدرسة أقرب إلى مشروع استثماري منه إلى حق أساسي في التعليم.
وفوق ذلك، فإنه في بلد منهك، حيث لا تتجاوز رواتب معظم الموظفين بضع مئات من الدولارات، يقف الأهالي عاجزين أمام فواتير تبدأ بمئات وتنتهي بآلاف الدولارات. مشهد يتكرر كل خريف، لكنه هذه السنة بلغ ذروة الانفجار: أقساط مدرسية قفزت بين 500 و1000 دولار إضافي، مدارس رفعت رسومها إلى حدود 6000 دولار وأكثر، وطلبات لوازم مدرسية تتدرج من الدفتر والممحاة ولا تنتهي بالحقيبة والزي الرسمي.
وبذلك يُختزل معنى الموسم الدراسي في لبنان: بدل أن يكون موعداً للأمل وانطلاقة جديدة، يتحول إلى موسم نزيف مالي ينهش ما تبقى من جيوب العائلات.
فصل الاستباحة: لا رقيب ولا حسيب!
ويضاف الى ذلك ان لوائح أسعار الكتب للعام الدراسي 2025 – 2026 تبدو وكأنها فواتير استشفاء في مستشفى خاص بلا رحمة. في مدرسة AIS-AJALTOUN مثلًا، يواجه أهالي طلاب الصف G7 AP فاتورة كتب تبلغ 470.78 دولارا، فيما يدفع طلاب الصف Grade 7 ما يعادل 241.175 دولارا. هذه الأرقام وحدها كفيلة بجعل الكتاب المدرسي سلعة "نخبوية" بدل أن يكون أداة للتعليم.
اما في ثانوية حسام الدين الحريري – صيدا، فقد جاءت اللوائح محمّلة بكتب متعددة للصف الثالث الثانوي (علوم عامة وعلوم حياة). اللافت أن المدرسة حدّدت سعر كتاب البيولوجيا للفرع LS بـ 10 دولارات فقط، لكنها تركت بقية الكتب من دون أسعار، مكتفية بعبارات مثل "يُباع في المدرسة" أو "يُشترى من المكتبات". هذا الإبهام لا يعفي الأهالي من الدفع، بل يزيد من قلقهم أمام فواتير مجهولة الرقم لكنها حتمية السداد.
أما في Ecole St Roch des Pères Antonins – رياق، فقد عرضت إدارة المدرسة لوائح للصفوف EB7 وEB8 وEB9، لكنها، بدورها، لم تذكر أي أسعار. واكتفت الإدارة بعبارة: "الكتب متوفرة في مكتبة المدرسة وبأسعار مدروسة". جملة مطاطة تختبئ وراءها أرقام قد تصدم الأهل عند الدفع.
اللباس الموحد عبء إضافي!
من زاوية أخرى، وكأن الكتب لا تكفي، تفرض المدارس زيا موحدا يتراوح بين "بذلات كاملة، هوديات، أحذية سوداء، قمصان مطبوعة"، وكلها تُشترى من المدرسة حصريا. الزي، الذي كان يُفترض أن يساوي بين الطلاب ويكرّس الانتماء، بات رمزا لاستنزاف جديد يضاف إلى فاتورة الكتب والأقساط. في جميع الاحوال، الكتب والزي المدرسي ليسا سوى جزأين من المشهد، اذ ان الأقساط نفسها أصبحت قصة منفصلة من الغلاء. ما يجعل التعليم نوعا من الترف الاجتماعي الذي لا يقدر عليه سوى الميسورين.
المصداقية مفقودة!
استنادا الى ما تقدم، تقول السيدة هلا لـ "الديار" ان: "الجامع بين هذه اللوائح جميعا ليس فقط الأسعار الفلكية، بل أيضا غياب الشفافية. مدارس تذكر الأرقام بدقة، وأخرى تتركها في الظل، وثالثة تكتفي بتطمينات لفظية لا قيمة لها أمام واقع السوق. في النتيجة، يذهب الأهالي إلى المكتبات والمدارس بقلوب مثقلة وجيوب فارغة، ليكتشفوا أن التعليم الرسمي صار حلما بعيد المنال، والخاص أصبح استثمارا قاسيا في "بورصة المعرفة". اذ لم تعد المرحلة الدراسية انطلاقة أمل جديد، بل بداية نزيف مالي يتكرر كل عام. على أي حال، كلها مؤشرات على نظام تربوي انفصل عن رسالته، وتحول إلى مشروع تجاري يضاعف مأساة العائلات اللبنانية.
جولة ميدانية: الأسعار تتأرجح بين مكتبة وأخرى
على ارض الواقع، قامت "الديار" بجولة على بعض المكتبات في بيروت، حيث برزت صورة قاتمة عن واقع الأسعار. البداية كانت من شهادة إحدى الأمهات التي قصدت بيروت الغربية قادمة من بيروت الشرقية، فقط من أجل التوفير. السيدة كوزيت روت لـ "الديار" أنها احتاجت لشراء كتابين لأولادها، لكن المفاجأة أن الفاتورة بلغت نحو 180 دولارا لكتابين فقط. مشهد يكشف حجم المساومة والتفاوت في الأسعار، وكأن الكتاب المدرسي أصبح سلعة تفاوضية لا يضبطها أي سقف.
وخلال الجولة، بدت الفوارق أكثر وضوحا: في مكتبة "دوكولاند" مثلًا، يبدأ سعر الدفتر المدرسي من 4.5 دولار، ليصل إلى 10 بل حتى 15 دولارا للدفتر الواحد. وفي المقابل، في منطقة برج حمود، تباع دزينة دفاتر (12 دفترا – الدفتر يحتوي على 160 ورقة) بحوالي 200 ألف ليرة لبنانية بينما نفس الدزينة في مكان اخر تباع ب 590 ألف ليرة لبنانية والدفتر بـ 55 سنتا. تفاوت صادم بين سعر الدفتر المفرد وسعر الدزينة، يعكس غياب أي منطق أو معيار موحّد للتسعير.
الأمر نفسه انسحب على باقي المستلزمات: سعر الممحاة وصل في بعض المكتبات إلى 0.90 دولار (90 سنتا)، بينما يمكن إيجادها في مكتبات أخرى بـ 0.25 دولار (25 سنتا) فقط. كذلك الحال بالنسبة للمِبراة، حيث تفاوتت الأسعار بلا أي ضابط.
أما الحقائب المدرسية، فقد شكّلت مفاجأة أخرى: الأسعار تبدأ من 15 إلى 20 دولارا، لكنها تقفز في بعض المحلات إلى 55 دولارا للحقيبة الواحدة، في مشهد يجسّد كيف تتحول "الحقيبة" من وسيلة لحمل الكتب إلى عبء ثقيل على جيوب الأهالي.
المفارقة أن هذه الأسعار لا تتأرجح فقط بين نوعية المنتج أو جودته، بل أيضا بحسب التوزيع الجغرافي للمنطقة، بحيث يدفع المواطن في بيروت الشرقية ما لا يدفعه في برج حمود، ويدفع أهالي الضواحي أسعارا تختلف عن تلك التي في وسط العاصمة. صورة مصغّرة عن فوضى السوق اللبنانية حيث يُترك المستهلك نهبا لجشع التجار وغياب الرقابة.
الحق البديهي بات امتيازا!
عموما، عندما نسلّط الضوء على هذه القضايا، فذلك ليس ترفاً صحفيا ولا مجرّد صرخة في الهواء. إنها صرخة واقع تعيشه آلاف العائلات اللبنانية يوميا. فكيف يمكن لأهل معاشاتهم بالكاد تكفي قوت يومهم أن يؤمّنوا كتبا تصل أسعارها إلى مئات الدولارات. الأمر لا يقف عند المدارس الخاصة وحدها، إذ حتى في المدارس الرسمية رغم أنها تُعتبر "أخف" من ناحية الكلفة، يبقى على الأهل أن يشتروا الزي الرسمي، القرطاسية، والكتب، إضافة إلى كل ما يُطلب من التلميذ يوميا ليواكب زملاءه. إشارة الى ان بعض المؤسسات تمنع استخدام مستلزمات مستعملة او قديمة. وهنا يكمن الجرح: كيف لتلميذ أن يشعر بالانتماء والمساواة إذا كان يفتقد أبسط الأدوات التي يحتاجها لمتابعة دراسته؟
في الخلاصة لا مناص من القول، ان المدرسة التي كان يُرتجى منها أن تكون مساحة للعدالة والفرص المتكافئة، أضحت انعكاسا للفوارق الطبقية. هناك تلميذ يدخل صفه ببدلة مميزة وقرطاسية كاملة وحقيبة أنيقة ومصروف يومي مريح، وتلميذ آخر بالكاد يحمل دفترا وقلما، وربما يذهب إلى مدرسته جائعا. مشهد يختصر انهيار منظومة يفترض أنها حامية للطفولة ومؤسسة للمستقبل.
إنها قضية أساسية لأن التعليم ليس سلعة، بل حق بديهي وطبيعي وفطري، لا يجوز أن يتحوّل إلى امتياز. ما لم يُكسر هذا المسار ويُفرض على المدارس والمكتبات معا الالتزام بشفافية الأسعار وعدالتها، فسيبقى الموسم الدراسي موسم إذلال للأهل والتلامذة على حد سواء، بدل أن يكون موسم أمل وانطلاقة جديدة.
ندى عبد الرزاق -"الديار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|