التناحر على سوريا ..مشروع التقسيم الإسرائيلي يتقدّم
الفرضية الرائجة حول التطورات المتسارعة في سوريا، هي تلك التي تعتبر أننا نشهد تنامياً للتناقض بين مشروعين لمستقبل هذا البلد: مشروع «الاستقرار» الذي تتقاطع حوله الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وفرنسا، ومشروع التفتيت الذي تتبنّاه إسرائيل رسمياً.
يعود هذا الأمر أساساً إلى انفلات التغوّل الإسرائيلي من كل الضوابط، وضربه عرض الحائط بكل «الخطوط الحمر»، والذي تُرجم ميدانياً اجتياحاً واحتلالاً للأراضي السورية وعدواناً مستمرّاً عليها ودعماً مباشراً للتّوجّهات الانفصالية في بعض المجموعات المسلحة، وسياسياً بدعوات رسمية مستمرّة، منذ سقوط النظام السابق، إلى تقسيم سوريا على أسس طائفية وإثنية.
قوبل هذا التغوّل الإسرائيلي بمواقف متباينة من قبل الأطراف الداعمة للنظام الجديد في سوريا، تراوحت بين السعي إلى التوسّط بينه وبين إسرائيل أو شجب وإدانة ما ترتكبه الأخيرة من اعتداءات والتحذير من مخاطرها على مستقبل الإقليم برمّته. بكلام آخر: وبينما يعمل الطرف الإسرائيلي يومياً على خلق وقائع على الأرض عبر التوسّع والتدمير ودعم سيطرة القوى الانفصالية على مناطق بعينها، فإنّ الأطراف المذكورة سالفاً لم تتّخذ خطوات فعليّة للضغط عليه وحمله على التراجع عن سياساته.
ولا يستثني ما تقدّم أطرافاً إقليمية، كتركيا والسعودية، ترتبط معارضتها لمشروع التّفتيت الإسرائيلي بالتهديدات الناجمة عنه بالنسبة إلى أمنها القومي و«العدوى» التقسيميّة التي قد يسبّبها، واحتمال امتدادها إلى أراضيها، وتناقضه مع تطلّعاتها إلى رعاية السلطة الجديدة في سوريا وتحويلها إلى حليف إقليمي لها.
أمّا الموقف الأميركي، ورغم مشاركته في الرعاية المشار إليها حتى الآن وإصراره العلني على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا، فإنّ تبنّيه المنظور الإسرائيلي للإقليم باعتباره «فسيفساء للطوائف والإثنيات»، هو ما قد يفسّر تسامحه مع سياسة التّفتيت الإسرائيلية ويشي بإمكانية انقلابه مستقبلاً للتناغم معها.
مخططات مبيّتة للتقسيم
لم يعُد من المبالغة القول إنّ إسرائيل، ممثّلة بحكومتها الفاشية الراهنة، رأت في انهيار النظام السوري السابق فرصة تاريخية لوضع مخطّطاتها المعدّة سابقاً لتقسيم سوريا موضع التنفيذ. قد يكون من المفيد التذكير بأنّ بعض مسؤولي هذه الحكومة، كوزير الخارجية جدعون ساعر، اعتبروا منذ عام 2015، أنّ أحد المآلات المحتملة للصراع المستعر آنذاك في هذا البلد، والمفضل بالنسبة إليهم، هو تفكيكه التام. ففي مقال شديد الصراحة كتبه ساعر مع غابي سيبوني على موقع «معهد دراسات الأمن القومي» الإسرائيلي في 13 تشرين الأول 2015 بعنوان «وداعاً سوريا»، أكّد الكاتبان أنّ «سوريا التي نعرفها قد انتهت إلى غير رجعة، ولم يعُد من الممكن إعادة توحيدها من جديد».
وهما جزما أنّ «جميع الجهود الدُّولية الساعية إلى حلّ الأزمة السورية يجب أن تقرّ بأنّ سوريا عام 2010، كدولة ذات سيادة وحدود معترف بها دُولياً، لم تعُد موجودة، وأنه لا يتوقّع في المستقبل القريب إعادة إنشاء دولة ذات حكومة مركزية فاعلة ضمن الحدود التي كانت تُعرف بها سابقاً». لذلك، لم يكن من المستغرب أن يحضّ ساعر، عند استلامه منصبه كوزير للخارجية في تشرين الثاني 2024، على إنشاء تحالف بين إسرائيل و«الأقلّيّتين الدرزية والكردية» في سوريا و«منح الحماية» لهما.
وزير الأمن، يسرائيل كاتس، من جهته، حذا حذو زميله، واقترح في بداية هذا العام قيام الأمم المتحدة بتنظيم مؤتمر دُولي لتقسيم سوريا إلى 4 دول. من الممكن الإشارة كذلك إلى مقابلة نتنياهو مع قناة «I24»، التي أفصح فيها عن شعوره بأنه يحمل «رسالة روحية وتاريخية تتوارثها الأجيال»، وهي السعي إلى تحقيق «إسرائيل الكبرى»، وتلقّيه في أثناء المقابلة قلادة تُظهر الخريطة الفعلية لهذا المشروع، والتي تضمّ، إضافة إلى فلسطين التاريخية، أجزاء من لبنان وسوريا والأردن ومصر.
كما لا حاجة إلى الإفاضة في استعراض ما يتفوّه به بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير حول الموضوع نفسه. ذلك أنّ الحكومة الفاشية تجهر بتوجّهاتها، الملتزمة بالرؤيا التقليدية لليمين الصهيوني، والتي سبق لأوديد ينون، مستشار أرييل شارون أيام كان وزيراً للدفاع في حكومة مناحيم بيغن بداية الثمانينيات، أن شرحها بإسهاب في مقال منشور في شهرية «كيفونيم» في شباط 1982 بعنوان «إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات».
شجّع ينون آنذاك الحكومة الإسرائيلية على اعتماد إستراتيجية تهدف إلى تقسيم دول الإقليم برمّتها على أسس طائفية وإثنية، لأنّ الكيانات التي ولدت نتيجة لاتّفاقية «سايكس-بيكو» مصطنعة، ولا تعبّر عن الانتماءات الحقيقية لـ«مكوّناتها»، أي الجماعات والأقوام التي تضمّها، والتي تغلّب الانتماءات الطائفية والإثنية والقبلية على تلك الوطنية.
وعليه، فإنّ الانتقال الإسرائيلي إلى الهجوم بعد سقوط النظام السوري السابق، وانتهاج سياسة تقسيمية علنيّة في هذا البلد، لم يكونا وليدَي لحظة مناسبة فقط، بل أتيا كتنفيذ لمخطّطات معدّة مسبقاً، متّسقة مع ثوابت اليمين الفاشي الإسرائيلي وطموحه إلى التغوّل في المنطقة برمّتها.
منظور إسرائيلي - أميركي مشترك
«نظرية الفسيفساء» التي تنفي أصالة الانتماءات الوطنية والقومية في منطقتنا ليست إسرائيلية المنشأ، بل هي نتاج أطروحات الاستشراق الاستعماري الغربي، الأوروبي والأميركي، وكانت أساساً لسياسات اتّبعتها القوى الغربية، عملاً بمبدأ «فرّق تسد» الاستعماري المعروف. فقد حاولت فرنسا، مثلاً، تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية أيام انتدابها عليها، لكنها فشلت في ذلك. ومنذ أن أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة على الإقليم بعد الحرب العالمية الثانية، ناصبت العداء لكل مشاريع بناء دول وطنية مركزية ومستقلّة فيه، ونجحت في ضربها وإسقاطها واحدة تلو الأخرى.
يقدّم المفكّر العربي، علي القادري، قراءة تفصيلية لهذه الإستراتيجية الأميركية في كتابه المهمّ «تفكيك الاشتراكية العربية»، الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية»؛ حيث يشير إلى أنّ الولايات المتحدة استهدفت نموذج الدولة الوطنية المركزية وسعت إلى تدميره واستبداله، بعد نهاية الثنائية القطبية، بأنماط من فيدراليات الطوائف والإثنيات - وفق مثال «اللويا جيرغا» الأفغانية -، فاقدة للسيادة، وتتيح سيطرة أميركية على الموارد وعلى القرار السياسي، أو بتعبير آخر، أنظمة تدير تنازعاً أهليّاً بارداً في الداخل بين «المكوّنات» على حصصها من السلطة والثروة، مع خضوعها للأجندة الإستراتيجية الأميركية على المستويَين الإقليمي والدُّولي. ومن هنا، فإنّ وحدة الكيانات الوطنية في ظلّ مثل هذه الأنظمة، تكون شديدة الهشاشة وقابلة للانفراط عند هبوب أي ريح.
عندما غزت الولايات المتحدة العراق في عام 2003، وفرضت النظام الفيدرالي عليه وبدأت تواجه مقاومة شرسة من أبنائه، علت أصوات في واشنطن تنادي بتقسيم العراق تماماً، مثل ليسلي غيلب، مرجع العديد من السياسيين الأميركيين لشؤون المنطقة في تلك المدّة، والذي اقترح في مقال في «نيويورك تايمز» في 25 تشرين الثاني بعنوان «العراق: حلّ الدول الثلاث» بالأخذ بهذا الخيار. تحمّس قسم من المحافظين للاقتراح المذكور، وكذلك فعل جو بايدن عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، ومستشاره أنتوني بلينكن.
مهاجمة المبعوث الأميركي الحالي، توم برّاك، لاتفاقية «سايكس - بيكو» لعدّة مرات، تنسجم في الواقع مع موقف اليمين الإسرائيلي منها ومن الدول القطرية التي نشأت بعدها. تجلّى هذا الانسجام في تصريحه في 31 آب الماضي، والذي قال فيه إنّ «الإسرائيليين لم يعودوا يعترفون بحدود سايكس - بيكو وإنهم سيقومون بما تمليه عليهم اعتباراتهم الأمنية»، من دون أن يبدي أي اعتراض على مثل هذه السياسة.
لسنا أمام تعارض بين سياستي إسرائيل وأميركا، بل أمام تمايز ظرفي بين الأولى التي تدفع إلى تقسيم كامل لدول المنطقة، والثانية التي تريد إعادة صياغتها لتكون فيدراليات هشّة قابلة للتفكيك. على أنّ الموقف الأميركي قد يتغيّر في اتّجاه الأخذ بالخيار الإسرائيلي، إذا فشل في فرض مشروعه الراهن.
سوريا ساحة تناحر تركي - إسرائيلي
لئن أظهر سقوط النظام السابق تقاطعاً بين الطرفين، فقد تبدّى سريعاً أنّ هذا التقاطع سيتلاشى، ليظهر من فوره تباين بين أجندتي إسرائيل وتركيا، سيصعب تجسير هوّته ببساطة. في صلب الخلاف، يقع مسعى التّفتيت/التقسيم الإسرائيلي الذي يتناقض مع المصالح التركية. إذ تحرص أنقرة على: وحدة الأرض السورية، قيام حكم مركزي صديق، وقطع الطريق على أي اتجاه انفصالي يهدّد أمنها القومي (الأكراد).
في المقابل، تركّزت التصريحات والأفعال الإسرائيلية، في الشهور الماضية، على منع بناء قواعد عسكرية تركية أو أي تمركز عسكري أو حتى أمني لفصائل حليفة للأتراك، كما حصل في إنزال الكسوة قبل أيام، حيث المرتفع المشرف على دمشق والجنوب، أو كما حصل قبلها في قصف مطار «تي فور» ونقاط حسّاسة أخرى. هذا الاستباق الإسرائيلي لأي تمركز تركي إستراتيجي في سوريا يتيح قطع الطريق على حرّية حركة أنقرة، وينبئ بحجم التناقض بين الطرفين والمرشّح لأشكال من الصدام في المرحلة المقبلة.
تركيّاً، ثمّة سباق زمني لاستخلاص العبر العسكرية من حرب الـ12 يوماً مع إيران، عبر خطوات عملية حثيثة: نشر «القّبة الفولاذية»، بناء الملاجئ، والاستثمار في الصواريخ فرط الصوتية. خطوات أنقرة على وقع التغوّل الإسرائيلي في الإقليم، تأتي طلباً للاستعداد وتحصين ساحتها تحسّباً للحظة استخدام إسرائيلي للقوة لكسر الخطوط الحمر التركية وتثبيت وقائع لا يمكن العودة عنها، وهو الخطر الذي بدأ إردوغان بالتحذير منه إبّان الحرب على لبنان حين قال: «ساعتان ونصف ساعة فقط تفصلهم عنّا».
والثلاثاء الماضي، تحدّث الرئيس التركي بوضوح عن مواجهة مشروع التقسيم الإسرائيلي في سوريا، حين ألمح إلى دور تخريبي إسرائيلي لمشروع دمج قوات «قسد» بالجيش السوري، يؤثّر على ما سمّاه «مسيرة التضامن الوطني والأخوة الجارية في تركيا (في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني)»، مشدّداً على أنّ «ما نريده هو أن تبقى سوريا موحّدة بكل أطيافها، والرئيس السوري أحمد الشرع وأعضاء إدارته يشاركوننا هذا الرأي».
تلمس أنقرة، إذاً، خطر التحرّك الإسرائيلي في الجنوب السوري ودعم «قسد» في الشرق، على تأثير الملف الكردي على أمنها القومي، وتالياً تقويض مشروع القوى الجديدة في دمشق لتثبيت حكمها. مسار الصدام، أو التنافس الساخن، لا يبدو أنّ واشنطن تتّخذ خطوات عمليّة لمنعه، وليس ثمّة ما يضمن أنّ الأميركيين لن يتبنّوا لاحقاً أجندة إسرائيل السورية، ما يحتّم حينها ترجمة التناقض والتنافس إلى صراع ساخن ساحته سوريا.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|