تثبيت وقف النار مدخل لتغيير قواعد اللعبة في لبنان
بعيد من ظاهر الصياغة الديبلوماسية للورقة التي قدمها الجانب الأميركي بشأن تثبيت إعلان وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل، وتحديدا لمرحلة ما بعد 27 نوفمبر 2024، تتكشف في عمق البنود الـ 11 الأميركية والمعدلة لبنانيا أهداف تتعدى مجرد التهدئة إلى مشروع إعادة تشكيل الواقع اللبناني على المستويين السيادي والأمني، وصولا إلى إعادة هندسة العلاقة بين الدولة اللبنانية ومكوناتها السياسية والأمنية، وفي مقدمتها «حزب الله».
اللافت، وفق ما يؤكد مصدر ديبلوماسي في بيروت لـ«الأنباء»، «أن الورقة بصيغتها المعدلة والتي أدخل الجانب اللبناني تعديلات عليها، لا تشكل مجرد خارطة طريق لهدنة تقنية أو مؤقتة على الجبهة الجنوبية، بل ترسم مسارا طويلا ومركبا نحو إعادة بناء الدولة اللبنانية ككيان سيادي مكتمل المواصفات. فكل بند من بنود الورقة يحمل في طياته اشتراطات واضحة لتحصين وقف إطلاق النار، لكن على قاعدة إعادة تعريف الدولة، وموقع القوى غير الشرعية، وتحديد وجهة لبنان الجيوسياسية في المرحلة المقبلة».
وتظهر القراءة المتأنية لهذه الورقة أنها لا تقف عند حدود القرار 1701 الذي طالما شكل أساسا نظريا للتسوية في الجنوب، بل تسعى إلى توسيع مضمونه نحو التطبيق الكامل للدستور اللبناني واتفاق الطائف، بما يعنيه ذلك من تحويل مجمل التوازنات الداخلية، وإلغاء الأدوار العسكرية لأي قوة غير نظامية. والمقصود هنا في شكل غير ملتبس هو سلاح «حزب الله» والفصائل الفلسطينية، الذي يفترض وفق الورقة أن يجرى العمل على إنهاء وجودها المسلح تدريجيا في الأراضي اللبنانية، شمال الليطاني كما جنوبه، وذلك بآليات دعم مباشر للمؤسسات الأمنية الرسمية، وفي طليعتها الجيش اللبناني.
ويضيف المصدر الديبلوماسي: «هذه الورقة تستبطن بوضوح تصفية تدريجية للبنية المسلحة للحزب، والفصائل المسلحة الأخرى وإن بشكل غير تصادمي، وذلك عبر ثلاث أدوات متوازية: أولا، تعزيز قدرات الجيش اللبناني ورفده بالعتاد والدعم النوعي. ثانيا، نشره في كل النقاط الاستراتيجية الحساسة ولاسيما الحدودية. وثالثا، ربط أي دعم اقتصادي دولي للبنان بتنفيذ التزامات هذه الورقة حرفيا، أي بجعل الدعم المشروط سلاحا ناعما بيد الدول الكبرى لدفع الدولة اللبنانية نحو خيار واحد لا ثاني له: حصرية السلاح بيدها».
في الموازاة، لا تهمل الورقة الإشارة إلى ضرورة انسحاب إسرائيل من «النقاط الخمس» العالقة، وتسوية قضايا الأسرى، وترسيم الحدود مع إسرائيل وسورية، ما يعني أن الحل المطروح هنا ليس أحاديا ولا استنسابيا، بل يعرض تسوية شاملة لا تستثني أي طرف من موجباتها.
لكنه، كما يلفت المصدر نفسه، «يخضع كل بند للموافقة الصريحة من الدول المعنية، ما يمنح الورقة طابعا تعاقديا غير ملزم إلا برضا الأطراف الإقليمية والدولية، وهذا ما يفتح الباب أمام مسار تفاوضي طويل، لكن مضبوط بالحد الأدنى من التفاهمات الكبرى».
وفي حين تبدو بعض البنود ضبابية، كالدعوة إلى عقد مؤتمر اقتصادي دولي من أجل إعادة إعمار لبنان بدعوة من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلا أن هذا الطرح يحمل بعدا مزدوجا: أولا، يربط الإعمار والدعم المالي بشروط سياسية وأمنية مسبقة. وثانيا، يعيد تفعيل «مقاربة ترامب» التي كانت تقوم على الجمع بين الدعم المشروط وبين محاصرة نفوذ إيران في الساحة اللبنانية.
التحول الجذري في هذه الورقة يكمن في أنها تسعى إلى نقل لبنان من مرحلة «إدارة الأزمة» إلى مرحلة «تفكيك أسباب الأزمة»، ولكن وفق منطق خارجي، يستند إلى توافقات كبرى بين عواصم عربية وعالمية، ما يفرض على بيروت ان تحسن إدارة هذه اللحظة.
من هنا، فإن الورقة تقدم وكأنها «فرصة نهائية» أمام الدولة اللبنانية: إما التقدم نحو إعادة بناء الدولة بكل ما تتطلبه من صعوبات وتضحيات، وإما التورط في مسار المراوحة الذي لن يقود سوى إلى مزيد من الانهيار والعزلة. فالتدويل الناعم الذي تمثله هذه الورقة لا يفرض نفسه بالقوة، بل بالإغراء المشروط: دعم مالي، سياسي، اقتصادي، عسكري، مقابل إتمام انتقال تاريخي في وظيفة الدولة ومرجعياتها الأمنية.
ويرى المصدر مصدر «أن النقاش الحقيقي الذي سيفتحه لبنان في الأشهر المقبلة لن يكون حول بنود هذه الورقة فقط، بل حول جوهر هويته السياسية والسيادية، وما إذا كان مستعدا للانخراط في مشروع «إعادة التعريف» أم سيظل يدور في فلك سياسة المحاور وازدواجية القرار.. والنتيجة هنا لن ترحم أحدا».
داوود رمال -الانباء الكويتية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|