محليات

اللامركزية… خشبة خلاص لبنان من مركزية الانهيار

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب الدكتور شليطا بو طانيوس:

بعد أن تناولنا في المقال السّابق https://hura7.com/?p=62455 مفهوم الحياد وأبرزنا أهميّته على الصعد السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والأمنيّة، نتوقف اليوم عند الرافعة الثانية لبناء الدولة التعدديّة الحديثة، وهي اللامركزية الإدارية.

اللامركزية الإدارية ليست مفهومًا طارئًا أو استثنائيًا، بل هي نظام إداري معتمد في معظم دول العالم، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وبشكل خاص في الدول ذات البنية التعددية، الإثنية أو الطائفية. تتفاوت أشكال اللامركزية من دولة إلى أخرى، فبينما تعتمد بعض الدول نموذجًا إداريًا لا مركزيًا بسيطًا، تصل دول أخرى إلى اعتماد الفيدرالية كنموذج متقدّم من اللامركزية.

أما في لبنان، فالوضع مختلف. فرغم أن النظام فيه مركزي هش في جوهره، ورغم أن اتفاق الطائف نصّ صراحةً على ضرورة اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة، إلا أن التنفيذ ما زال غائبًا. بعض الأطراف السياسية لا تزال ترفض السير بهذا الخيار الإصلاحي، أو تتحجّج بحجج مختلفة للتهرّب من تطبيقه، وكأنها ترى في تطوير النظام الإداري تهديدًا لمصالحها لا مصلحة للوطن.

فما هي اللامركزية الإدارية ؟ ما هي أهميّتها؟ ولماذا يتحفّظ البعض على تطبيقها؟

اللامركزية الإدارية هي نظام إداري يقوم على نقل جزء أو أجزاء من صلاحيات السلطة المركزية إلى هيئات أو سلطات محلية، مثل البلديات، القائمقاميات، أو المحافظات، مع بقاء هذه الهيئات خاضعة لرقابة الدولة المركزية، ضمن إطار قانوني منظّم.

أما في لبنان، فقد نصّ اتفاق الطائف، الذي وُقّع عام 1989 وأنهى الحرب الأهلية التي استمرّت خمسة عشر عامًا، على ضرورة اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة، وذلك بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري. وقد ورد هذا النص في الاتفاق بالحرف، كما يلي: “إعادة النظر في التقسيم الإداري في إطار وحدة الدولة بما يعزز اللامركزية الإدارية الموسعة.”

فهل تُعدّ اللامركزية الإدارية الموسعة شكلًا من أشكال التقسيم، كما يروّج البعض؟ أم أنها، في الواقع، النظام السياسي الأنجع والأكثر ملاءمة لبناء دولة لبنان الجديد؟

الجواب واضح: اللامركزية الإدارية الموسعة ليست تقسيمًا، بل على العكس تمامًا، فهي أُقرّت صراحةً في اتفاق الطائف، كما سبق وأشرنا، وهي تقوم على توزيع الإدارة لا السيادة، وتهدف إلى تعزيز كفاءة الدولة لا تقويضها.

فجميع مؤسسات الدولة تبقى تحت سلطة الدولة المركزية ورعايتها، لكن هذا النظام يتيح منح بعض البلديات أو الأقضية أو المحافظات استقلالًا إداريًا أو ماليًا أو تنظيميًا جزئيًا، ضمن صلاحيات محددة وواضحة.

أما السلطات السيادية الكبرى، كوزارة الخارجية، والدفاع، والأمن، والمالية العامة، فتبقى حصرًا بيد الدولة المركزية الواحدة الموحّدة.

فلا خوف على وحدة لبنان ولا خوف من التقسيم، بل على العكس تمامًا فاللامركزية الإدارية الموسعة تُعدّ ضرورة لبناء لبنان الجديد، لأسباب عديدة ومتنوّعة:

لأن هذا النظام يُمكّن كل منطقة من إدارة شؤونها وخدمة مواطنيها وفقًا لحاجاتها الخاصة، ما يُساهم في معالجة التفاوت الصارخ في التنمية بين العاصمة والمناطق الأخرى، ويعزز العدالة في توزيع المشاريع والخدمات.

فلنأخذ مثالًا واقعيًا ومبسطًا لتوضيح فعالية اللامركزية الإدارية، خصوصًا على الصعيد المالي: نفترض أنّ إدارة لامركزية في قضاء معيّن تتولّى مسؤولية جباية الضرائب المحلية، مثل رسوم الكهرباء والمياه. وبحسب اتفاق تنظيمي واضح بين الدولة المركزية والوحدات المحلية، تقوم الدولة المركزية باقتطاع 20% من العائدات لصالح الخزينة العامة، فيما يُترك 80% من هذه العائدات للإدارة المحلية.

ويخصّص هذا الجزء الأكبر لتمويل مشاريع التنمية المحليّة، وتحسين البنية التحتية، وتطوير الخدمات العامة، مما ينعكس إيجابًا ومباشرة على حياة سكان القضاء المعني، ويُعزّز من قدرة الإدارة المحلية على تلبية الحاجات الفعلية للناس بفعالية وسرعة أكبر.

إنّ نظام اللامركزية الإدارية يُسهم في جعل المواطن شريكًا مباشرًا في اختيار الهيئات المحلية التي تتولى إدارة شؤونه اليومية. هذا التشارك يعزّز الثقة والمراقبة والمساءلة والشفافية، وينزع عن المسؤول المحلي صفات الهيمنة والتسلّط، فيصبح في خدمة المواطن، لا العكس.
ولنأخذ مثالًا حيًّا: في الوضع القائم اليوم، يضطر كثير من اللبنانيين إلى اللجوء إلى “الزعيم” من أجل الحصول على خدمات أساسية مثل التعليم أو الاستشفاء. بهذا الشكل، يصبح المواطن أسيرًا لهذا الزعيم، ويعتمد عليه في أدقّ تفاصيل حياته.

أما في ظل نظام لامركزي فعّال، فإن هذا الواقع ينقلب: تصبح الإدارات المحلية قريبة من الناس، والمسؤولون المحليون منتخبين منهم ومحاسَبين أمامهم، وبحاجة إلى رضى ناخبيهم – لا كما هو الحال اليوم – ما يفرض على المسؤول أن يكون في خدمة المواطن، ويقضي على علاقة التبعية المهينة التي غذّاها النظام المركزي على مرّ السنين.

إنّ تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة يُسهم في نقل الصلاحيات من الإدارة المركزية المترهّلة، الغارقة في البيروقراطية، إلى سلطات محلية أكثر ديناميّة وكفاءة. هذا التحوّل يُسرّع في تنفيذ المشاريع، ويُبسّط حياة المواطن اليومية.
لنأخذ مثالًا واقعيًا: حين يحتاج المواطن اليوم إلى إجراء معاملة في الدوائر العقارية أو في هيئة إدارة السير، يقضي نصف نهاره متنقّلًا بين المكاتب، وقد يُضطر إلى دفع الرشاوى لتسيير معاملته.

أما في ظل إدارة لامركزية فاعلة، تتوزّع هذه الإدارات على مختلف المناطق، فلكل منطقة دوائرها العقارية، وهيئاتها الإدارية المختصة، ما يُخفّف الازدحام، ويُقلّل من الضغط على مراكز العاصمة، ويُضعف فرص الفساد الناتج عن التمركز المفرط. وبذلك، تُقدَّم الخدمة للمواطن بشكل أسرع، “أنظف”، وأكثر عدالة.

هذا فضلاً عن أنّ تطبيق نظام اللامركزية الإدارية يمنح المواطن إحساسًا حقيقيًا بدوره الفاعل في إدارة شؤون منطقته، فيتحوّل من متفرّج أو ناخب موسمي إلى شريك فعلي في صناعة القرار المحلي.

كما أن اعتماد هذا النظام، ضمن رؤية متكاملة تقوم على مبدأ “الوحدة في التنوّع” واحترام الخصوصيات المناطقية، يمنح كل منطقة نوعًا من الاستقلالية الإدارية والمالية…، من دون المسّ بوحدة الكيان اللبناني أو بالدستور الوطني الجامع.

إنها أفكار متعددة وقراءات متقدمة، تشكّل الأساس الضروري لقيام نظام لامركزي عصري، يشكّل حجر الأساس لبناء الدولة الحديثة التي نطمح إليها جميعًا.

ولكن بطبيعة الحال، فإنّ تطبيق أيّ نظام اللامركزية الإدارية الموسّعة، يثير بعض الهواجس لدى شرائح من اللبنانيين، منها ما هو مشروع ومنها ما هو غير مبرّر.

– فبعض القوى السياسية تتحفّظ على هذا النظام خشية خسارة نفوذها القائم ضمن النظام المركزي الحالي، إذ تستفيد من تمركز الصلاحيات في العاصمة، وتخشى أن يؤدّي توزيع هذه الصلاحيات محليًا إلى تقليص امتيازاتها.

– كما تَطرح بعض الجهات مخاوف من أن يتحوّل هذا النظام إلى مقدّمة لتقسيم طائفي مقنّع أو إلى نوع من الفدرالية الطائفية غير المعلنة، الأمر الذي يثير الحذر لدى فئات واسعة.

– إلى جانب ذلك، هناك من يقلق من التفاوت في القدرات المالية والاقتصادية بين المناطق اللبنانية، ما قد يؤدي إلى تعميق الفوارق بدل معالجتها.

– ويبرز أيضًا رأيٌ آخر يرى أن تطبيق اللامركزية في ظل دولة ضعيفة وسلاح خارج عن شرعيتها، قد يُستغل من بعض الجهات لتكريس سيطرتها على الأرض، لا من باب خدمة المواطنين بل من باب تعزيز نفوذها السياسي والأمني.

لا شك أن بعض هذه المخاوف مشروع، لا سيّما لدى أولئك الذين يتحلّون بحرص كبير على وحدة لبنان وقيام دولة قوية وعادلة. لكن، بيدٍ واحدة وبتعاون اللبنانيين جميعًا، يمكننا التوصّل إلى إقرار نظام لامركزي إداري موسّع يُريح البلاد وينقلها من ضفة الأزمات إلى ضفة الاستقرار والنهوض.

إنّ لبنان، في واقعه الحالي، يحتاج إلى هذا التغيير البنيوي. يحتاج إلى دولة لامركزية قوية، قائمة على العدالة الاجتماعية والإنصاف الحقيقي، لا على الزبائنية والاستزلام والشلل الإداري كما هو الحال اليوم.

نعم، لبنان بلد تعددي، فلنُقِر بذلك بجرأة ومسؤولية. وهو في الوقت نفسه بلد واحد موحد، ولن يكون غير ذلك. وبين هاتين الحقيقتين، تشكل اللامركزية الإدارية الموسعة السبيل الأنجع لبناء لبنان الجديد الذي يحلم به جميع اللبنانيين: دولة أكثر عدلاً، أكثر كفاءة، وأكثر قرباً من الناس.

إن اللامركزية الإدارية الموسعة ليست خيارًا تقنيًا، بل ضرورة سياسية ووطنية لبناء لبنان الجديد؛ لبنان العادل، القادر، المتوازن، القريب من مواطنيه. هي ليست مدخلًا إلى التقسيم، بل مدخل إلى الوحدة في التنوع والتعدّديّة، وإلى العدالة الحقيقيّة… لنطبّقها.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا