الصحافة

"خرج ولم يعد"... صرخة مُوجعة وظاهرة مُقلقة تتفشى... هل من ضوابط للردع؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

"خرج ولم يعد" صرخة موجعة تختصر وجع أم، وارتباك أب، وانتظار لا يعرف نهاية.عبارة تكاد لا تغيب عن النشرات الأمنية الصادرة عن قوى الأمن الداخلي، ولا عن صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، مرفقة بصور مفقودين ونداءات من عائلات تبحث عن أبنائها وأقاربها، غادروا منازلهم ولم يعودوا، في مختلف المناطق اللبنانية.

 فبين الاختفاء الطوعي والاختفاء القسري وحالات الخطف، أو حتى جرائم لم تكشف تفاصيلها بعد، تتفاقم ظاهرة خطيرة ومقلقة تنمو بصمت، وتخفي وراءها قصصاً من العنف والاستغلال والابتزاز والإفلات من العقاب، في ظل الأزمات المتراكمة التي تعصف بالبلاد.

وفق إحصاءات قوى الأمن الداخلي لعام 2024، تم تسجيل 760 بلاغا على الأقل عن حالات اختفاء، أكثر من نصفها يتعلق بقاصرين وقاصرات. وتشير قوى الأمن إلى أن نحو 70% من هذه الحالات تنتهي بالعثور على الشخص المختفي، بينما تبقى نسبة غير صغيرة مجهولة المصير، خصوصا في المناطق الطرفية والشمالية والبقاعية.

من الملاحظ، أن نسبة كبيرة من المفقودين هم من القاصرين، لا سيما الفتيات. ففي حين يعزى قسم من الحالات إلى "الهروب من المنزل بسبب العنف أو الضغوط النفسية"، وفق ما تفيد به جمعيات حماية الطفولة، تسجل أيضاً حالات خطف واضحة تستهدف الفتيات القاصرات، بهدف الزواج القسري أو الاستغلال الجنسي.

وبحسب تقرير وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية بالشراكة مع اليونيسف (2024)، فإن نحو 37% من حالات الفقدان المبلغ عنها تتعلق بقاصرين دون 18 عاما، وغالبا ما وتعزى هذه الحالات إلى عوامل عدة، أبرزها: العنف المنزلي (45%)، الاستدراج الرقمي (28%)، مشاكل نفسية أو ميول انتحارية (15%)، والخطف بهدف الزواج أو الاستغلال (12%)."

إختفاء طوعي وقسري

تتعدد خلفيات حالات "الخروج دون عودة" بين اختفاء طوعي يرتبط بالهروب من ضغوط اجتماعية أو اقتصادية أو عائلية، واختفاء قسري لأسباب أمنية أو جنائية، وصولا إلى حالات خطف قد يكون هدفها الابتزاز المالي أو الانتقام الشخصي، أو حتى الإتجار بالبشر. فالأزمات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يرزح تحتها اللبنانيون – لا سيما منذ عام 2019 – خلقت بيئة خصبة لتفاقم ظاهرة الاختفاء، خصوصا في صفوف المراهقين والنساء والعاملات الأجنبيات واللاجئين. فعشرات القصص التي تنشر يوميا تشير إلى فئات هشة، تعاني من العنف المنزلي، أو العزلة النفسية، أو الاستغلال، فتختار الاختفاء كملاذ نهائي، أو تقع ضحية شبكات مشبوهة تستغل ضعفها وهشاشتها.

تقول عليا (اسم مستعار)، والدة فتاة قاصر فقدت لأيام قبل أن يُعثر عليها في منزل رجل ثلاثيني: "لم أكن أعلم أن ابنتي كانت على تواصل معه عبر "الإنترنت". استغل صغر سنها وهشاشتها النفسية، وأقنعها بالهرب، وقد تطلب الأمر ضغطا أمنيا كبيرا لإعادتها".

وتقول ناديا (اسم مستعار)، وهي أم لمراهق عاد بعد أسبوع من الغياب، "ابني عمره 17 سنة، ترك البيت بعد شجار بسيط ولم يعد، فتشنا في كل مكان، وبعد أسبوع تبين أنه كان عند صديق، لكنه رفض الرجوع لأنه لا يشعر بالأمان في البيت".

فيما تروي أم ريما:" ابنتي لم تهرب، بل خدعت، قالوا لي إن الزواج سيحميها من الفقر، لكنه سرق طفولتها"، وريما هي طفلة تبلغ من العمر 14 عاما، اختفت أثناء توجهها إلى المدرسة، وبعد يومين من البحث، تبين أنها زوجت سرا من شاب عشريني، "بموافقة" والدها الذي يعاني من ضائقة مالية شديدة.

جمعية "كفى" لمناهضة العنف ضد المرأة تشير إلى "أن العوامل الأكثر شيوعا لاختفاء القاصرات تتعلق بالعنف الأسري، والتسرب المدرسي، والتزويج المبكر القسري، وغالبا ما تغطى هذه الممارسات بتسويات عشائرية أو صمت مجتمعي، ما يزيد من تفشي الظاهرة".

دور وسائل التواصل الاجتماعي

وفي هذا السياق، تؤكد الدكتورة فوميا بو عاصي، الاختصاصية في العمل الاجتماعي في الجامعة اللبنانية لـ"الديار"، "أن اختفاء القاصرين والقاصرات يعود إلى تفكك الأسرة، وقلة الاهتمام والرعاية، وضعف أساليب التنشئة" ، مضيفة أن "شخصية الطفل وصحته النفسية والعقلية تلعبان دورا أساسيا في هذا الإطار".

وتوضح "أن الاختفاء القسري يرتبط بعدة عوامل منها : الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، مؤكدةً على أهمية تقديم الدعم والرعاية الشاملة للأطفال نفسيا واجتماعيا، واقتصاديا ، إلى جانب التوعية بحقوقهم، وتعزيز قدرتهم على حماية أنفسهم من الأذى سواء من الأهل أو الآخرين".

كما شددت على "ضرورة سن قوانين صارمة للحماية والمعاقبة، ومحاربة ظاهرة الزواج المبكر"، مشيرةً إلى "أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا سلبيا في تفاقم المشكلة، من خلال تشجيع العلاقات الافتراضية، وانتشار الفساد الأخلاقي، في ظل غياب الرقابة الأبوية الفاعلة".

فوسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورا متباينا في ظاهرة الاختفاء، فمن جهة تساهم بشكل فعّال في نشر نداءات الاستغاثة بسرعة فائقة، وتشكل وسيلة ضغط جماهيري تدفع الجهات الأمنية إلى التحرّك، لا سيما في الساعات الأولى الحرجة. وفي حالات كثيرة أدى تداول صورة أو منشور، إلى العثور على مفقودين خلال أيام أو ساعات.

لكن في المقابل، تعد هذه المنصات نفسها إحدى أخطر وسائل الاستدراج الرقمي والاستغلال النفسي، خصوصا للفتيات القاصرات. ففي ظل غياب رقابة أبوية فاعلة، وانعدام التوعية الرقمية، تتحول هذه المنصات إلى فضاءات خطرة، تستخدم لبناء علاقات وهمية، وابتزاز عاطفي، وأحيانا لتنسيق عمليات اختطاف أو زواج قسري، كما في العديد من الحالات المذكورة.

من هنا، تظهر الحاجة الملحة إلى حملات توعية رقمية تستهدف الأهل والمراهقين معا، إلى جانب تعزيز قدرات التحقيق الإلكتروني، وإلزام شركات التواصل بالتعاون في حالات الاشتباه بالاستدراج أو الابتزاز.

ويكشف أحد المحامين العاملين في قضايا الأحداث أن "القانون اللبناني لا يوفر حماية فاعلة للقاصرين من مخاطر العالم الرقمي، ولا يجبر المدارس أو المؤسسات التربوية على إبلاغ الجهات المختصة عند الشك بوجود حالة خطر أو استغلال، ما يعرض الفتيات بشكل خاص للوقوع ضحية تلاعب نفسي أو استدراج جنسي".

العقوبات القانونية... ودور الأهل

أما عن الدوافع التي تؤدي إلى الخطف، فترجح الدكتورة بو عاصي أنها "غالبا ما ترتبط بـاضطرابات نفسية لدى الخاطف، أو بشخصية تسعى إلى فرض السلطة والسيطرة، إضافة إلى دوافع مادية واقتصادية كطلب فدية أو استغلال الضحية في أعمال قسرية، وأحيانا تكون إجرامية بحتة كوسيلة انتقام، أو نتيجة دافع جنسي أو استغلال جسدي، لا سيما عندما تكون الضحية فتاة قاصرة".

وتشير إلى "أن الخطف لا يخلف فقط أضرارا مباشرة، بل يترك آثارا نفسية عميقة على الضحية، أبرزها ما يعرف باضطراب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder)  ، والذي قد يظهر على شكل انعزال اجتماعي، فقدان في العلاقات، اضطرابات في النوم والشهية والمزاج، رفض الحديث عن الحادثة، إضافة إلى تراجع الثقة بالنفس والشعور بالخوف الدائم".

أما بالنسبة للجاني، فتوضح أن الأمر "لا يقتصر على العقوبات القانونية، بل قد يترتب عليه أيضا تبعات نفسية واجتماعية مثل الشعور بالذنب، القلق، الندم، العزلة الاجتماعية، وأحيانا فقدان الوظيفة أو فرص العمل، خصوصا في حال انكشاف الجريمة أمام المجتمع".

وشددت على "أن دور الأهل أساسي في الوقاية من حالات الهروب أو الاختفاء، لا سيما لدى القاصرين، من خلال الإصغاء الفعلي للطفل، والتفاعل مع ما يعيشه ويحسه، وتكريس وقت يومي للحوار والتقرب منه، مما يعزز شعوره بأنه مقبول ومحبوب، كما أوصت بمراقبة سلوكيات الأطفال وتغيراتها، والتعرف على أصدقائهم ودوائرهم الاجتماعية، إلى جانب التواصل المستمر مع المدرسة، وخلق بيئة منزلية آمنة ومستقرة تلبّي احتياجاتهم الأساسية وتوفر لهم التحفيز والرعاية".

وأضافت "أما المدرسة، فتتحمل بدورها مسؤولية كبيرة، تبدأ بـتشجيع كل طفل على إبراز مواهبه وقدراته، ومراقبة ظاهرة التنمّر والتصدّي لها بحزم، والحرص على عدم التمييز بين التلامذة، وإشعار كل طفل بأنه مقبول ومحبوب كما هو، بغضّ النظر عن خلفيته الاجتماعية أو النفسية".

المطلوب عدالة  تبدأ بالوقاية وتنتهي بالمحاسبة

ويحذر مصدر قانوني من "توسع هذه الظاهرة في ظل الانهيار الاقتصادي، وتفكك البنى الاجتماعية والبطالة وضعف الرقابة الرسمية، ما يجعل من بعض الأشخاص أهدافا سهلة لشبكات الاستغلال أو الخطف"، مشددا "على ضرورة سن قانون خاص بإدارة حالات الفقدان يشمل إنشاء سجل وطني، وتحديد آلية تدخل موحدة خلال الساعات الأولى، و تعديل قانون العقوبات لتشديد العقوبة على حالات الإخفاء القسري، أو الخطف تحت التهديد الإلكتروني، رغم أن المادة 569 من قانون العقوبات اللبناني تجرم الخطف، وتفرض عقوبة تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، إذا ترافق الخطف مع تعذيب أو إذا كانت الضحية قاصرا" مشيراً إلى أن "الإطار التشريعي اللبناني يفتقر إلى قانون عصري يعالج موضوع الأشخاص المفقودين بصفته قضية إنسانية وأمنية وقانونية متشابكة".

يشار إلى أن مجلس النواب أقرعام 2018 "قانون المفقودين والمخفيين قسرا خلال الحرب الأهلية"، لكنه يقتصر على ضحايا الحرب، ولا يشمل الحالات الراهنة أو اليومية.

وأضاف المصدر "لا بد من إلزام شركات الاتصالات والتكنولوجيا بالتعاون الكامل في حالات الاستدراج الرقمي، وتعزيز دور البلديات والمجتمع المدني في التبليغ والتوعية، إضافة إلى إطلاق خط ساخن وطني مجاني مخصص للإبلاغ الفوري عن حالات الفقدان، مرفق بفريق تدخل سريع، ونشر بيانات دورية من قوى الأمن عن مصير كل حالة بعد العثور عليها، لتعزيز الشفافية".

المفقودون في لبنان ليسوا مجرد أرقام في لوائح أمنية، أو صور على جدران افتراضية، هم وجوه حقيقية. فمع كل حالة اختفاء، هناك حياة توقفت وحلم انكسر، وحق إنساني ضاع في زواريب الإهمال والتقاعس. ليس المطلوب معجزة، بل عدالة تبدأ بالوقاية وتنتهي بالمحاسبة، أما الصمت فليس خيارا، لأن كل دقيقة تمر دون تحرك متعدد الأبعاد، يجمع بين الدولة والجمعيات والإعلام والعائلات، قد تكون الفاصل بين حياة تنقذ أو تفقد إلى الأبد.

ربي أبو فاضل - الديار

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا