الصحافة

التقشف المقاوم: نهاية وهم "الكرم الإلهي"

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يلي أخد القرد على ماله، راح المال وبقي القرد على حاله.

هذه المقولة خطرت ببالي وأنا أطالع خبر توقف "حزب الله" عن دفع المخصصات الجامعية والتعليمية لأبناء عناصره، وهي مِنَح كان يقدمها "الحزب" لعائلات عناصره، الأحياء منهم والقتلى. لقد برر "الحزب" هذا التوقف بأنه انقطاع "موَقّت"، معللًا الأمر بالتحضيرات السارية للمواجهة "المرتقبة" مع العدو الإسرائيلي، وبأن المجهود الحربي يتطلب تسخير الموارد المالية الشحيحة لدعم الجبهة.

لكن هذه الخطوة تعبّر عما هو أعمق من مجرد تقشف ظرفي؛ إنها جزء من عملية تمهيد لبيئة "الحزب" الداخلية بأن زمن "الرفاه المالي" و"الدولارات الطازجة" قد ولّى. وأن زمن المضاربات في السوق السوداء، وقبض الرواتب بالدولار، وتوزيع الفائض المالي كوسيلة ضبط اجتماعي، قد انتهى. نحن أمام إعلان غير مباشر أن المرحلة المقبلة هي "مرحلة شهادة دائمة"، أي موت دائم، حتى "النصر المؤجل".

لعل الخدعة الأكبر التي روّج لها "حزب الله" ليست فقط أنه "تنظيم مقاوم"، بل أنه "نظيف الكف"، وأن المال الذي يتدفق إلى مؤسساته وقاعدته الاجتماعية هو مال طاهر، حتى لو جاء من التهريب عبر المرافئ والحدود، أو من تجارة الكبتاغون التي جنت له ولحلفائه في سوريا نحو خمسة مليارات دولار. حاول "الحزب" أن يغلف اقتصاده الموازي بأدبيات دينية، بينما هو جزء من منظومة إجرامية إقليمية.

في الواقع، إن تجربة "حزب الله" ليست غريبة عن النموذج اللبناني. فخلال الحرب الأهلية، أنشأت معظم الميليشيات اقتصادها الخاص، وصرفت المخصصات لعائلات الشهداء، ولا تزال بعض هذه المخصصات تُدفع حتى اليوم، إما عبر مؤسسات حزبية أو عبر مغلفات نقدية يحملها أمراء الحرب بحلّتهم السياسية الجديدة. يكمن الفارق في أن تلك الميليشيات توقفت عن إنتاج "الشهداء" بالجملة، بينما استمر "حزب الله"، وتحديدًا بعد تورطه في الحرب السورية إلى جانب بشار الأسد، في الدفع بشبابه إلى أفران الموت.

هذه الحرب لم تُسقط "حزب الله" أخلاقيًا فقط، بل كشفت النقاب عن عناصره، وجعلت عائلاتهم أهدافًا متاحة لإسرائيل التي تمكّنت، في عام واحد فقط، من اصطيادهم تباعًا خلال الحرب الفاشلة التي أسموها "حرب الإسناد".

ورغم تفرد "حزب الله" بعقيدته الدينية المنغلقة، إلا أنه يشبه باقي الأحزاب اللبنانية بفساده، وإن كان قد خبّأ هذا الفساد لسنوات، عبر حلفائه واختراقه لمفاصل الدولة الأمنية والإدارية.

ما يفاقم هذه الأزمة ليس فقط تقشف "حزب الله" وسحب غطائه الاجتماعي، بل استمرار الدولة اللبنانية في التواطؤ الصامت مع هذا النموذج. فبدل أن تقوم الدولة بفرض القانون والدستور ونزع سلاح أي تنظيم خارج الشرعية، ها هي تواصل تكيّفها مع واقع الدويلة، وتمنح "حزب الله" الغطاء السياسي والمؤسسي ليستمر في الإمساك بمفاصل الدولة والقرار. إن القبول بسلاح غير شرعي، وتبرير وجوده تحت عناوين واهية كـ "المقاومة"، هو خيانة موصوفة لمفهوم الدولة نفسه، ومساهمة مباشرة في تعميق الانهيار الاجتماعي والوطني. فكيف يمكن ابرام عقد اجتماعي جديد، أو إنقاذ ما تبقى من الاقتصاد، في ظل تغوّل ميليشيات تتعامل مع الوطن كخزان تعبئة وموارد بشرية لحروب لا تنتهي؟

لكن مهما بلغت الهلوسات العقائدية والتعبئة الدينية من شدة، يبقى الناس رهائن للواقع المادي. لا أحد يراهن على مشروع سياسي أو ديني إذا كان عاجزًا عن تأمين شبكة أمان مالية واجتماعية. ومع تقادم الزمن، تآكلت هذه الشبكة، وتكشّف وهم "دولة الحزب"، وتحولت إلى بيت عنكبوت.

إن توقف العطاءات ليس تفصيلًا بيروقراطيًا؛ إنما هو إنذار مبكر، بل تذكير قاسٍ للمستفيدين والمتضررين على حد سواء، بأن "الشهادة الجامعية"، بما تحمله من أفق شخصي وجَماعي، تبقى أرقى من "الشهادة" في سبيل طاغية يتخفى بثوب مظلوم، ويسوق أبناء الناس إلى محارق لا تنتهي.

مكرم رباح - نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا