الصحافة

تداعيات كارثيّة للمسّ باستقلاليّة مصرف لبنان

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

أبعد من سجال حول إنتزاع صلاحيات الحاكم الماروني، يختبئ وراء الإنتقاص من صلاحيات مصرف لبنان وحاكمه ومجلسه المركزي تداعيات سلبية كبيرة، ستنعكس حكما على الإقتصاد وعلى المالية العامة وعلى النقد. هذا الأمر تُثبته النظرية الإقتصادية والمُحاكاة التي قمّنا بها كما سيظهر في هذا المقال.

منع التلاعب السياسي بالسياسة النقدية

معروف أنه في الديموقراطيات، لا يُمكن فرض ضرائب على الشعب من دون الإستحصال على موافقة مُمثليه. وهذا بالتحديد ما ينصّ عليه الدستور اللبناني، الذي أعطى صلاحية فرض الضرائب وتحديد قيمتها لمجلس النواب. ولمنع الحكومات من فرض ضرائب خفية على مثال طبع العمّلة، تمّ إعطاء المصارف المركزية في الديموقراطيات إستقلالية عن السلطة السياسية، تمثّلت بعدم قدرة هذه الحكومات على التدخل في السياسات النقدية، ولا على إقالة الحاكم ونوابه، إلا في حالات إستثنائية نصّ عليها القانون.

أضف إلى ذلك، إن العمود الأساسي للحوكمة الإقتصادية الرشيدة يمرّ حكما بإستقلالية المصرف المركزي، من خلال وضع الأخير لسياسة نقدية وتنفيذها، من دون أن يكون هناك أي تدخل سياسي فيها. وهو ما يؤدّي إلى إستقرار الأسعار ودعم الإستقرار الإقتصادي على الأمدين المتوسّط والبعيد، وتفادي الضغوط السياسية الآنية، بالإضافة إلى تعزيز مصداقية المصرف المركزي. بمعنى آخر، منع التلاعب السياسي بالسياسة النقدية، الذي قدّ يؤدي إلى نتائج إقتصادية كارثية كما حصل في لبنان.

هذا التوجّه نحو إستقلالية المصارف المركزية موجود في الإقتصادات الحرّة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث يُلاحظ من خلال البيانات التاريخية كيف إستطاعت هذه الدول عبر إستقلالية مصارفها المركزية، من تأمين إستقرار إقتصادي أكبر وسيطرة على التضخّم، جعلت هذه الإقتصادات أكثر جاذبية للمستثمرين.

الحفاظ على استقرار الأسعار ولجم التضخم

أظهرت البيانات التاريخية، أن العلاقة بين إستقلالية المصرف المركزي ولجم التضخم هي علاقة إيجابية قوية. فكلما زادت إستقلالية المصرف المركزي، زادت قدرته على لجم التضخّم. وتأتي هذه العلاقة من منطلق أن الحكومات تسعى إلى خفض الفائدة، بشكل لا يعكس الحقيقة على الأرض، وإلى زيادة المعروض من النقد بهدف تحفيز الإقتصاد ، وهو ما يؤدّي إلى تغلّغل التضخّم في الإقتصاد إلى فترات طويلة. وبالتالي، إذا كان المصرف المركزي يملك إستقلالية القرار، فإنه لا ينصاع إلى إملاءات الحكومة كما يحصل اليوم مع الإحتياطي الفديرالي الأميركي.

التباين الزمني

تُظهر ممارسات الحكومات في الدول التي لا إستقلالية لمصارفها المركزية، تلاعبا واضحا بالسياسة النقدية. فهي تعمد في مُعظم الأحيان إلى خفض التضخّم على المدى القصير، ثُمّ تزيد الكتلة النقدية لخفض القيمة الحقيقية لديونها، أو لتحفيز الإقتصاد على أبواب الإنتخابات. وتؤدّي توقّعات اللاعبين الإقتصاديين بإرتفاع التضخّم، إلى إفشال سياسة الحكومة وسياسة المصرف المركزي. وما المثال التركي إلا ترسيخ للإنحراف عن السياسات النقدية المثلى الواجب إتباعها، بهدف تحقيق مكاسب سياسية على المدى القصير.

مصداقية السياسة النقدية

مما لا شكّ فيه أن إستقلالية المصرف المركزي لها دور جوهري في زيادة مصداقية السياسة النقدية. وتنصّ هذه المصداقية على <التصريح عما سيتمّ القيام به>، <تنفيذ ما تمّ التصريح به>، و>التذكير بما تمّ التصريح به وما تمّ تنفيذه>. وإستطرادا إذا كان هناك من فارق بين التنفيذ والتصريح، شرح أسباب هذا الفارق. هذا الأمر يزيد من ثقة اللاعبين الإقتصاديين بالسياسة النقدية، وبالتالي يتمّ تطويق تواقعاتهم بالتضخّم.

تحفيز الإنضباط المالي

تستخدم الحكومات طبع المال لتمويل عجز الموازنة، وهو ما يؤدّي إلى تضخّم يُعتبر ضريية غير مرئية على الشعب. وبالتالي، تأتي إستقلالية المصرف المركزي لمنع الحكومات من هذه الممارسات، خصوصا عند أبواب الإنتخابات (مثلا إقرار سلسلة رتب ورواتب في لبنان في العام 2017)، مما يفرض عليها إدارة أكثر واقعية للمال العام، وإنضباط مالي أكثر إستدامة.

تعزيز الإستقرار الإقتصادي

من خلال السيطرة على التضخّم، يبعث المصرف المركزي برسالة ثقة إلى المستثمرين والمُستهلكين، بإن البيئة الإقتصادية مُستقرّة، وهو ما يؤدّي إلى تحفيز المشاريع الإستثمارية والإستهلاكية طويلة الأمدّ على حدِ سواء.

مصرف لبنان

يُخبرنا التاريخ أن هناك فجوّة واضحة بين إستقلالية مصرف لبنان القانونية وتاريخ التدخلات السياسية، في ظل إطار عام غير مُستقرّ من حروب وصراعات سياسية وإضطرابات إجتماعية. فمصرف لبنان يتمتّع قانونيا بإستقلالية نصّ عليها قانون النقد والتسليف، تتمثّل بمجلس مركزي مُعيّن من قبل الحكومة (دون موافقة مجلس النواب كما يحصل في الولايات المُتحدة الأميركية)، يمتلك حصرية القرار فيما يخص السياسة النقدية، ولا يُمكن إقالة الحاكم أو نوابه إلا في حالات إستثنائية.

إلا أنه في المُقابل، كان للسياسيين تدخّل في عمل المصرف، لإجباره على تمويل الحكومات. وأتت المادّة 91 من قانون النقد والتسليف، لتزيد من قدرة السياسة على التدخل في سياسة المصرف المركزي النقدية، حيث تمّ تمويل الدين العام بنسبة 85% من المصارف والمصرف المركزي ، وهذه الأموال كانت من أموال المودعين.

حاولت السلطة السياسية (ونجحت في العديد من المرّات) بإملاء رغباتها على مصرف لبنان، ومن خلاله على المصارف التجارية. فمثلا هدفت الهندسة المالية التي قام بها المصرف المركزي في العام 2016 ، إلى إنعاش الخزينة العام المُنهكة بإلإنفاق العام، وإستطاعت هذه الهندسة إنقاذ الدولة من الإفلاس، لكن على حساب المودعين. وبحسب تقرير لصندوق النقد الدولي في تموز من العام 2019، بلغت نسبة تعرّض القطاع المصرفي لدين الحكومة 65% وهو رقم يتخطّى كثيرا النسب المسموح بها في عالم المال أي أقل من 5%.

التحدّي الأكبر للمصرف المركزي اليوم، هو تعزيز فعّالية الرقابة على العمل المصرفي بشقيّه (مصرف لبنان والمصارف التجارية)، والتمسّك بإستقلالية المصرف المركزي من خلال حصر القرارات بالسلطة الوحيدة المنوط بها أخذ القرارات، عنيت بذلك المجلس المركزي. أيضا من التحديات الكبيرة التي تواجه <المركزي>، تعزيز الشفافية والحوكمة الرشيدة على كافة المستويات.

إلا أن السلطة السياسية، ومن خلال مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تسعى إلى ضرب إستقلالية المصرف المركزي من باب المشاركة في قرارات المجلس المركزي، وهو ما سيؤثّر على المصرف المركزي وعلى مستقبل لبنان الإقتصادي، مع إحتمال حدوث تضخم وإنهيار في العملة وركود اقتصادي طويل الآمد.

تداعيات ضرب إستقلالية مصرف لبنان

في حال تمّ ضرب إستقلالية المصرف المركزي، هناك مجموعة من التداعيات السلبية التي ستحصل حكما، يتفاوت عمقها بحسب عمق الضربة:

- أولا زيادة التضخّم وفقدان السيطرة على سعر الصرف: فقدان الإستقلالية للمصرف المركزي، يعني أنه أصبح أداة بيد الحكومة ، وهو ما سيؤدّي إلى إلزامه بتمويل عجز الموازانات من خلال طبع العملة، مما يعني تضخّما مُفرطا سيدفع ثمنه الجيل الحالي والأجبال المُستقبلية.

- ثانيا : فقدان مصداقية السياسة النقدية (المضروبة أصلا نتيجة الأزمة) بحكم أن تباعيته للسلطة السياسية، تعني فقدان ثقة اللاعبين الإقتصاديين بالسياسة النقدية. وهنا نطرح السؤال عن موقف صندوق النقد الدولي، الذي يشترط إستقلالية المصرف المركزي كباب لتقديم القروض؟

- ثالثا : تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي، بحكم أن مصرف لبنان لا يملك القرار (غياب الإستقلالية) والقدرة (ضعف الإحتياط) على الدفاع عن الليرة.

- رابعا : فقدان الإستقرار على المدى البعيد لصالح الأهداف قصيرة الأمد، وذلك من خلال مُشكلة التباين الزمني.

- خامسا : فقدان الإنضباط المالي، من خلال فرض تمويل المصرف لعجز الموازنات، من دون أن يكون هناك بالضرورة إصلاحات إقتصادية ومالية هيكلية تواكبها.

تقدير حجم الخسائر التي ستنتج عن هذا الفشل المؤسساتي هو أمر صعب، بحكم الديناميكيات الإقتصادية التي تُمثّل تهديدا أكثر خطورة على الإقتصاد من ديناميكيات الركود الإقتصادي: التضخّم المُفرط (Olivera-Tanzi Effect)، تراجع الناتج المحلّي الإجمالي بالدولار الأميركي، إنخفاض قيمة الأصول المنقولة، تراجع إيرادات الدولة (Olivera-Tanzi Effect)، تراجع الإصلاحات، عدم إستدامة الدين العام، خسارة الدعم المالي والاستثمار الدولي...

الرسم البياني المُرفق، يُظهر نتائج المحاكاة التي قمنا بها لمعرفة مدى الإنحدار على فترة تمتّد على 35 شهرا، حيث نرى أن التداعيات هي بمليارات الدولارات، إذ يكفي النظر إلى تراجع الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي، لمعرفة الكارثة التي ستطال لبنان في حال تمّ المس بإستقلالية مصرف لبنان. فهل من آذان صاغية؟ 

جاسم عجاقة -الديار

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا