الأزمات تمر... وصيفنا صامد
رغم كلّ الظروف صيفنا صامد، ولا يزال لبنان واحدًا من أبرز الوجهات السياحية والثقافية في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، كبلدٍ يحمل تاريخًا عريقًا عمره آلاف السنين، وآثارًا من مختلف الحضارات التي تعاقبت عليه. وعلى الرغم من صغر مساحته الجغرافية، يشكّل بلدنا لوحة فسيفسائية نابضة تجمع بين التنوّع الطبيعي والجغرافي، والغنى الثقافي، والانفتاح الحضاري، ما يجعله وجهة سياحية متكاملة تستقطب الزوار الباحثين عن تجربة فريدة تجمع بين التاريخ، الطبيعة، والفن. والصيف في لبنان، يحوّله منصّة مفتوحة للإبداع، الموسيقى، والفنون المتنوعة، من خلال سلسلة من المهرجانات الدوليّة التي تستضيفها مختلف مناطقه وتستقطب أهمّ الفنانين العرب والعالميين الذين يحتضنهم جمهور واسع، ما يجعل تلك الأمسيات من الركائز الأساسية للمشهد الثقافي اللبناني، فضلاً عن كونها محرّكًا رئيسيًا للاقتصاد والسياحة المحلية.
لا تقتصر إقامة المهرجانات في لبنان على العاصمة، بل تنتشر في جميع أنحاء البلاد ساحلًا وجبلًا، ما يمنح الزائر فرصة فريدة لاكتشاف سحر الطبيعة اللبنانية الخلّابة، وروعة المواقع الأثرية، ودفء الضيافة اللبنانية الأصيلة. ومن بين المهرجانات التي باتت راسخة في ذاكرة اللبنانيين والعرب، تتصدّر المشهد مهرجانات الأرز، وبعلبك، وبيت الدين، وصيدا، والقبيّات، وغلبون، لِما تعكسه من حيويّة وثقافة وهوية وطنيّة، ولدورها الحيويّ في تنشيط الاقتصاد المحلّي لتلك المناطق، وجذب الإعلام الدّولي الذي ينقل اسم لبنان إلى العالم.
لقاء الأرز بالفن
في قلب جبال لبنان الشمالية وتحديدًا في منطقة بشرّي، تبرز "مهرجانات الأرز الدوليّة" بالقرب من غابة أرز الرب، إحدى أقدم وأشهر رموز لبنان الوطنيّة، ما يضفي عليها طابعًا مميّزًا يجمع بين الفن والطبيعة. استضاف المهرجان في دوراته السابقة كبار نجوم الغناء من لبنان والعالمَين العربي والغربي، فوقف على مسرحه ماجدة الرومي، ووائل كفوري، وشاكيرا، وأندريا بوتشيلي، ما ساهم في إبراز مكانته المرموقة على الخريطة الثقافية.
تتميّز دورة هذا العام من "مهرجان الأرز" بعودة قوية بعد غياب، تحت عنوان "رجعنا يا لبنان"، ما يعكس الإرادة اللبنانية في مواجهة التحدّيات وإعادة إحياء الفرح والفن. تميُّز هذا العام يتمثّل في المزج بين الفن اللبناني والعالمي، حيث تشارك "فرقة ميّاس" اللبنانيّة - العالميّة بعرض استثنائي (19 تموز) مُعدّ خصيصًا للمهرجان، إلى جانب مشاركة "نجم الرومانسيّة" وائل كفوري (26 تموز)، وكذلك الـ "DJ" العالمي "Black Coffee" في أمسيةٍ (30 تموز) من حصّة الشباب اللبناني.
الحماسة لحضور حفلات "مهرجان الأرز" كانت لافتة منذ الإعلان عنها، إذ فاقت الحجوزات التوقّعات، ما يؤكّد عطش الجمهور للفن والموسيقى والفرح.
بعلبك العراقة
"مهرجان بعلبك الدوليّ" من جهته، هو الأعرق والأقدم في لبنان، وربما في العالم العربي. انطلق عام 1956 في داخل القلعة التاريخية في المدينة البقاعية التي تحتضن موقعًا أثريًا رومانيًا من بين الأكبر عالميًا، ما يمنح المهرجان طابعًا مهيبًا وفريدًا لا يشبه سواه في المنطقة.
عبر تاريخه، استضاف المهرجان بين معبدَيْ جوبيتير وباخوس، عمالقة الفن العربي والعالمي، من فيروز، وصباح، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، وأم كلثوم، إلى مارسيل خليفة، وشارل أزنافور، وميكا، وسواهم، ما جعله منصّة تجمع بين المسرح الغنائي، والموسيقى الكلاسيكية، والأوبرا، والجاز، والرقص المعاصر.
رئيسة لجنة "مهرجانات بعلبك الدولية" نايلة دو فريج، أكدت لـ "نداء الوطن" أنّ الموسم الحالي يحمل شعار "أعمدة للخلود"، وهو شعار يحمل دلالات ثقافيّة ورمزيّة عميقة. فالأعمدة الأثرية للقلعة، تمثّل تذكيرًا بعظمة الحضارة التي خلّفتها المعابد القديمة، وترمز إلى الثبات والخلود في مواجهة التحدّيات. دو فريج أشارت إلى أنّ الشعار جاء بعد عام صعب شهدته المنطقة من تدمير وتحدّيات كبيرة، مشيرةً إلى أنّ الثقافة والفنّ هما من أعمدة الصمود واستمرار الحياة.
في 25 و 26 تموز الجاري، يقدّم المهرجان "أوبرا كارمن" لجورج بيزيه، وفي 8 آب، تطلّ الفنانة هبه طوجي في عرض غنائي استثنائي من إعداد وتنسيق المؤلّف الموسيقي أسامة الرحباني، مع مفاجآت مميّزة تعد الجمهور بتجربة فنّية راقية.
في بيت الدين "مكمّلين"
"مهرجانات بيت الدين الدوليّة" وبعدما قرّرت لجنتها تعليق دورة صيف 2025 إثر الحرب الإيرانيّة - الإسرائيليّة، عادت وأعلنت في بيان رسمي عن عودة المهرجان بصيغة "معدّلة".
هالة شاهين، عضو اللجنة التنفيذية للمهرجان، أوضحت أنّ بعض التعديلات أُجريت على البرنامج انسجامًا مع الظروف العامة، مشددةً على أنّ شعار هذه الدورة سيكون: "مكمّلين رغم كل التحديات"، تأكيدًا على التمسّك بالفعل الثقافي على الرّغم من كل الصعاب.
انطلق المهرجان في 10 تموز في بلدة بيت الدين في قلب الشوف الجبليّ، بحفلة افتتاحية بعنوان "ديوانيّة حب"، أحيتها ثلاث مغنّيات من لبنان ومصر وسوريا: جاهدة وهبه، ريهام عبد الحكيم، ولبانة القنطار، في ليلة طربيّة احتفت بالتنوّع الصوتي العربي.
كما يحتفظ البرنامج بعرضَيه المقرّرَين في 23 و24 تموز، حيث تُقدَّم المسرحيّة الغنائيّة "كلّو مسموح"، مع الفنانة كارول سماحة، ونخبة من الممثلين والراقصين المحترفين. وتُختتم فعاليّات المهرجان في 27 تموز، مع حفل بعنوان "الرقص حول العالم"، مخصّص لدعم المواهب الموسيقية اللبنانية الشابة، يشارك فيها التينور بشارة مفرّج، ومصمّما الرقص مازن كيوان وسحر أبي خليل.
يُذكر أنّ البرنامج الأصليّ للمهرجان كان يتضمّن مشاركة أسماء عالمية بارزة، مثل الميتزو سوبرانو الأميركية دجي ناي بريدغيز، وعازف العود العراقي نصير شمّه، إلا أنّ اسميهما غابا عن الصيغة المعدّلة المعلنة.
صيدا تغنّي البحر
لجنة "مهرجانات صيدا الدوليّة"، التي نظّمت خمس دورات ناجحة من المهرجان منذ العام 2016، اكتسبت خبرة كبيرة أهّلتها لتقديم بصمة مميّزة مع كل موسم جديد.
رئيسة اللجنة نادين كاعين عبّرت لـ "نداء الوطن" عن رؤيتها التي لم تتغيّر منذ تأسيسها، حيث شكلت إثنتا عشرة سيدة صيداوية لجنة تحمل تحدّي إعادة وضع مدينة صيدا على خارطة السياحة اللبنانية.
ورغم التحديات العديدة، واصلت اللجنة المسيرة بعزيمة لا تلين، مُتّخذةً من صيدا مركزًا ثقافيًا نابضًا يعكس عراقتها وإمكاناتها الحديثة، من خلال فعاليّات ثقافيّة وترفيهيّة متنوعة ومستدامة. هذه الفعاليات لا تبرز فقط الهوية الفريدة لصيدا، بل تُسهم أيضًا في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمدينة. وتضيف رئيسة اللجنة: "الأمل كبير في أن تساهم "مهرجانات صيدا" بتنشيط السياحة، التي بدورها تحفّز النشاط الاقتصادي في المدينة، خصوصًا في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها".
مهرجان هذا العام الذي يمتد من 6 إلى 9 آب 2025، يتميّز بعرض فنّي موسيقي غنائي خاص تقدّمه أوركسترا وجوقة "المعهد الوطني العالي للموسيقى" مع الفنان غسان صليبا تحت عنوان "راجعین بلحن جدید". كما يستضيف المهرجان الفنان مارسيل خليفة، الذي تربطه بصيدا خصوصيّة ورمزية كبيرة، خاصةً من خلال أغنيته الشهيرة "يا بحريّة" التي أصبحت جزءًا من الذاكرة الوطنية. ويشهد المهرجان أيضًا عودة الفنانة نانسي عجرم، التي تحيي ثاني حفلاتها ضمن المهرجان.
"صيِّف ونص" في القبيّات
بالانتقال إلى "مهرجان القبيّات" في البلدة الساحرة الواقعة في عكار، شمال لبنان، الموعد مع أمسيات طابعها عائلي وتراثي إلى جانب عروض فنّية متنوعة. تأسس المهرجان عام 2013 بهدف تعزيز السياحة الداخلية في الشمال اللبناني، وتسليط الضوء على الطابع الريفي والطبيعة الساحرة للمنطقة. يتضمّن المهرجان حفلات موسيقية، معارض تراثية، نشاطات بيئية ورياضية، ما يجعله وجهة مثالية للعائلات ومحبي المغامرات الجبليّة.
شعار "مهرجانات القبيّات الدوليّة" لهذا العام هو: "صيِّف ونص"، الذي يعبّر عن رسالة أمل وعودة للحياة إلى ربوع الشمال اللبناني، لا لمجرّد الترفيه فحسب. رئيسة "مهرجانات القبيّات" سينتيا حبيش، أوضحت لـ "نداء الوطن" أنّ شعار هذه السنة يرمز إلى توجّه المهرجان ليكون موعدًا موسيقيًا مميّزًا ومبادرة تنموية ثقافية وطبيعية في المنطقة، ويجسّد روح التجدد والصمود بعد سنوات التحدّيات.
الدورة الحادية عشرة من المهرجان تستمر لثلاث ليالٍ، من 8 إلى 10 آب 2025، وتتخلّلها عروض فنّية لفنانين منهم مروان خوري وعاصي الحلاني، إلى جانب النشاطات الأخرى المرافقة.
غلبون تستعيد وهجها
بلدة غلبون، في قضاء جبيل، تستعيد من جهتها وهجها الثقافي هذا الصيف مع عودة "مهرجانات غلبون الدوليّة"، لتقدّم لجمهورها أمسيتَين موسيقيتَين مميزتَين. وبين تحيّة موسيقيّة للموسيقار محمد عبد الوهاب قُدّمت في 11 تموز وأمسية لبنانيّة كلاسيكية بقيادة المايسترو لبنان بعلبكي موعدها في 13 تمّوز 2025، تؤكد غلبون، مرّة جديدة، موقعها كمنارة للإشعاع الفني والموسيقي في لبنان، تمامًا كما أرادتها لجنة المهرجان منذ انطلاقته عام 2010.
وفي حديث لـ "نداء الوطن"، تشدّد رئيسة لجنة "مهرجانات غلبون الدوليّة" ندى عاد على أنّ المهرجانات ليست ترفاً، بل حاجة وطنية وثقافية. فالفرح في زمن الانهيار هو شكل من أشكال المقاومة، والثقافة ليست من الكماليّات، بل ركيزة أساسية في مشروع بناء الدولة. وتضيف عاد أنّ غلبون أرادت أن تبقى مساحة أمل رغم كل ما يحيط بنا من ألم، وأنّ اللبناني لم يفقد قدرته على النهوض، مشيدةً بروح الصمود لدى الناس، وبقدرتهم على تحويل الأزمات إلى فرص، والغياب إلى إبداع.
لبنان حيث يتكلّم الفن
إذًا صيف لبنان يحوّل العديد من مدنه وبلداته وقراه إلى محطّات ثقافيّة وفنّية حقيقية، لا تقل في رمزيتها عن آثارها وحجارتها القديمة. فكل مهرجان فيها هو لقاء بين الماضي والحاضر، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الصوت والصدى، يجتمع فيها جمهور من مختلف الطوائف والمناطق، يندمج في لحظة جماعية من الانسجام، للاحتفال بما يوحّدهم: حبّهم للحياة، وتقديرهم للفن، واعتزازهم بلبنان. واستمراريّة هذه المهرجانات، رغم الظروف السياسيّة والاقتصاديّة الصعبة، ليست سوى تأكيد بأنّ الثقافة ليست ترفًا، بل هي حاجة إنسانية أساسية، وجسر يربط اللبنانيين ببعضهم البعض، وبالعالم الخارجي. وإذا كانت السياسة تقسّم، فالموسيقى توحّد، وإذا كانت الأزمات تُرهق النفوس، فالفنّ يُنعش الأرواح، ويمدّ خيوطه من بلدة إلى مدينة فينسج شبكة أمان ثقافية، تحفظ هوية الوطن، وتُذكّر العالم بأنّ في الشرق ما يستحق الحياة.
ماري منصف - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|