الصحافة

لا سلاح بلا دولة… ولا دولة بلا موقف

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في لحظة محورية من تاريخ لبنان السياسي، برز موقف الدولة اللبنانية الموحّد تجاه الورقة التي حملها المبعوث الأميركي توم باراك كمشهد نادر في حياة المؤسسات، وكأن شيئاً من هيبة الدولة التي كادت أن تُنسى، عاد ليطلّ برأسه. لم يكن مضمون الورقة مفاجئاً، لكنها للمرة الأولى تضع لبنان أمام خيار واضح: إمّا أن يكون دولة بسيادة كاملة، أو يستمر كمنصة مشروخة تتقاسمها التناقضات.

الورقة الأميركية جاءت محمّلة برسائل حاسمة. سبعة بنود اختزلت جوهر الأزمة: من نزع السلاح الثقيل خارج الجنوب، إلى الالتزام التام بالقرار 1701، مروراً بتفعيل دور الجيش وضبط الحدود مع سوريا، وصولاً إلى إصلاحات مالية وإدارية لم تعد تحتمل التأجيل. وفي المقابل، التزامات دولية بدعم مالي، إعادة إعمار الجنوب، وتقديم ضمانات أمنية لكل الأطراف، حتى لـ “حزب الله” نفسه.

لكن ما شدّ الأنظار لم يكن ما ورد في الورقة، بل ما خرج من لبنان. للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، تُكتب وثيقة رسمية تعكس اتفاقاً بين الرؤساء الثلاثة – رئيس الجمهورية جوزاف عون، رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الحكومة نواف سلام – على موقف موحد لا لبس فيه. لا خضوع ولا تحدٍّ، بل توازن دقيق بين واقع سياسي مركّب، والتزام أخلاقي – دستوري بأن لا سلاح شرعي إلا بيد الدولة.

كان لافتاً أن الرد اللبناني لم يغفل عن تأمين “هبوط سياسي آمن” لـ “حزب الله”. لم يتضمّن توقيتاً لنزع السلاح خارج الجنوب، لكنه أرسل إشارة واضحة: لا أحد يريد المواجهة، بل التفاهم. وهو ما جعل المبعوث الأميركي يصف الرد بـ”الشامل والمذهل”، وفق مصادر ديبلوماسية نقلت انطباعاً إيجابياً لدى واشنطن، معتبرة أن الدولة اللبنانية أظهرت للمرة الأولى منذ سنوات إشارات ناضجة على قدرتها على الإمساك بزمام المبادرة.

الرد اللبناني تضمّن أيضاً نقاطاً سيادية مهمة: المطالبة بانسحاب إسرائيل من مزارع شبعا، الرفض القاطع للتوطين، تأكيد عودة اللاجئين السوريين، والتشديد على عدم استغلال أي فراغ أمني خلال فترة الانتقال. بمعنى آخر، لم يأتِ الرد استسلامياً، بل رسم خطوطاً حمراً تحفظ مصلحة لبنان أولاً، وتذكّر بأن أي حل لا يمكن أن يكون على حساب السيادة أو الكرامة الوطنية.

أهمية هذا الموقف لا تكمن في مضمونه وحسب، بل في التوقيت أيضاً. فلبنان اليوم في عين العاصفة الاقليمية، ومع انفتاح إسرائيل على جبهات عدة، وتعقّد العلاقة الايرانية – الأميركية، يُخشى أن يُستخدم الجنوب اللبناني مجدداً كورقة في بازار الخارج. ولعلّ ما يجري حالياً من تصعيد ميداني هو خير دليل على ضيق هامش المناورة.

الرهان الآن ليس على ما قالته الدولة وحسب، بل على ما ستفعله. هل ستتمكن من تطبيق ما وعدت به؟ هل سيُترجم هذا الموقف إلى سياسات واقعية، تبدأ من الجنوب ولا تنتهي عند ضبط الحدود ومكافحة الفساد؟ أم أن الورقة، على الرغم من نواياها، ستضاف إلى أرشيف طويل من “الفرص الضائعة” التي يعرفها اللبنانيون جيداً؟

الموقف الموحد تجاه ورقة باراك ليس إنجازاً بحد ذاته، بل مدخل إلى مرحلة مختلفة إذا أُحسن استثمارها. إنها لحظة اختبار لإرادة الدولة، ولجدية كل الأطراف السياسية في خوض تسوية وطنية داخلية تحصّن لبنان من الانهيار. واللافت أن هذه الورقة لم تأتِ كجزء من ضغط دولي فقط، بل بدت وكأنها استجابة لنداء داخلي: كفى. كفى تأجيلاً، كفى سلاحاً خارج الشرعية، وكفى صفقات تُدار في الظل.

لبنان أمام فرصة نادرة. إما أن يستعيد الدولة كفكرة وسلطة وهيبة، أو يواصل الانحدار نحو دولة تُدار بالتوازنات لا بالقوانين. والمسافة بين الخيارين ضيّقة… لكنها لا تزال ممكنة.

لبنان الكبير

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا