"السلاح المرخّص" برعاية السياسة.. هل حان وقت قلب الطاولة؟
في بلدٍ تتداخل فيه السيادة مع السلاح المتفلّت، لم يعد مشهد إطلاق النار في الهواء خلال المناسبات الانتخابية أو الاحتفالية حدثًا استثنائيًا. هو مشهد مألوف في الحياة اليومية للبنانيين، يعكس هشاشة الأمن وغياب الدولة كمرجعية واحدة لضبط العنف. وفي محاولة جديدة للحد من هذه الظاهرة المتفشية، أقر مجلس النواب اقتراح القانون المعجل المكرر الرامي إلى تعديل القانون رقم 71 (الصادر في 27 تشرين الأول 2016)، عبر مضاعفة العقوبة على مطلقي النار في الهواء، بعدما شهدت الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة سلسلة حوادث دموية بسبب الرصاص العشوائي.
دماء على هامش الانتخابات
المناسبة كانت ديمقراطية، أما المشهد فحربي. الإعلامية ندى أندراوس، مراسلة قناة الـ"ال بي سي"، نُقلت إلى المستشفى إثر إصابتها برصاصة طائشة أثناء تغطيتها أحداث الانتخابات في طرابلس. حادثة هزّت الرأي العام وأعادت إلى الواجهة تساؤلات مزمنة عن الفوضى المسلحة التي تطغى على أي مناسبة عامة، خاصة وأنّ اندراوس لم تكن الوحيدة. وزير الإعلام، بول مرقص، قالها بصراحة: "إصابة إعلاميين في أرض المعركة أمر غير مقبول؛ فكيف بالحري وهم يغطّون الانتخابات؟"، كاشفًا أن الرصاص العشوائي أودى أيضًا بحياة مواطن وأصاب طفلًا بجروح خلال الساعات الانتخابية نفسها.
لكن ظاهرة الرصاص الطائش لا تقتصر على المناسبات العامة أو السياسية. فهي تتحول تدريجيًا إلى جزء قاتل من الحياة اليومية. في هذا السياق، تواصل "لبنان24" مع المواطن وسام المر، الذي روى حادثة خطيرة حصلت معه في منطقة"
الحدت". يقول وسام:" كنت قد ترجّلت للتو من سيارتي في منطقة الحدت. لم تمرّ سوى دقائق حتى سمعت دوي إطلاق نار، وشاهدت رصاصات تخترق زجاج السيارة، حيث استقرت مباشرة مكان جلوس السائق".
اللافت في رواية وسام أن الحادثة لم تقع خلال الانتخابات، بل في وقت عادي تمامًا، ما يطرح أسئلة أكثر خطورة: هل بات من السهل إلى هذا الحد أن يطلق النار في الأحياء السكنية دون مناسبة؟ ومن يحاسب؟ وهل باتت فوضى السلاح متجذّرة لدرجة أن الرصاص يُطلق بلا سبب، وبلا خوف، وبلا رادع؟
"لم يكن هناك لا عرس، ولا انتخابات، ولا تشييع. فقط رصاص في الهواء من مكان مجهول. بقيت مصدومًا وأنا أفكر: ماذا لو كنت تأخرت دقيقة فقط في النزول؟ هل كانت عائلتي ستتلقى خبر وفاتي برصاصة عبثية؟"، يضيف وسام، متسائلًا عن غياب الدولة في أبسط مقومات الأمان.
تحرك أمني... ولكن
الجيش نفّذ مداهمات في محافظتَي الشمال وعكار، أوقف خلالها عددًا من الأشخاص وضبط أسلحة وذخائر حربية، في إطار الملاحقة الجارية للمشاركين في عمليات إطلاق النار. لكن هذا التحرك، وإن بدا صارمًا، لا يبدّد القناعة الراسخة لدى المواطنين بأن المعالجة تبقى ظرفية، ولا تلامس جوهر الأزمة. فما الفائدة من الملاحقات إذا ظل السلاح متروكًا في الشوارع والبيوت والزواريب؟ ومن يضمن ألّا يعود مطلقو النار اليوم إلى هوايتهم غدًا في زفاف أو مناسبة حزبية أو إعلان نتيجة انتخابية؟
القانون بلا أنياب... إلى متى؟
بحسب القانون 71، يُعاقب مطلق النار عشوائيًا بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، مع تشديد العقوبة عند وقوع إصابات. التعديل الجديد يضاعف العقوبة، وهو تطور مرحب به، لكنه يظل قاصرًا إذا لم يُقرن بتطبيق صارم وشامل، ضمن خطة وطنية لا تفرّق بين سلاح "مرخّص" وآخر غير قانوني.
لا تكمن المشكلة فقط في السلاح غير الشرعي المنتشر خارج سلطة الدولة، بل تتفاقم في السلاح "الشرعي" نفسه، أي ذلك المرخّص رسميًا، والذي تحوّل مع الوقت إلى حق مكتسب لا يُسحب ولا يُحاسب عليه. من هنا، يقول مصدر أمني لـ"لبنان24" إن التراخيص التي وُزّعت بسخاء في السنوات الأخيرة جعلت من حمل السلاح "نمط حياة"، لا أداة دفاع استثنائية كما كان يُفترض. ويكشف المصدر أن عدد التراخيص الصادرة يُقدّر بالآلاف، وغالبًا ما تُستخدم هذه الأسلحة في مناسبات "احتفالية" أو حتى خلال الخلافات الشخصية، من دون أن يؤدي ذلك إلى أي سحب أو تعليق للترخيص، بل وسط غياب شبه تام لأي رقابة لاحقة.
الخطير في الأمر أن هذه التراخيص، التي من المفترض أن تخضع لرقابة مشددة، أصبحت في حالات كثيرة غلافًا قانونيًا لفوضى مسلحة معلنة. فالسلاح الموجود بشكل قانوني، لا يختلف في خطورته عن غير القانوني، متى ما خرج عن غايته الدفاعية وتحول إلى وسيلة تهديد أو استعراض أو حتى قتل عن غير قصد.
ويختم المصدر بالقول: "لا يمكن ضبط السلاح في لبنان من دون مراجعة شاملة لنظام التراخيص، وإخضاعه لمعايير صارمة، وربطه بمحاسبة جدية لكل مخالفة. أما استمرار سياسة الترخيص دون رقابة، فهي كمن يمنح إذنًا مؤجّلًا بإطلاق النار".
معضلة أعمق: السلاح في خدمة السياسة
لا يمكن اختزال فوضى السلاح في الجانب الأمني فقط. فالمعضلة في لبنان سياسية – طائفية بامتياز، إذ يعتبر بعض الأطراف أن السلاح جزء من "ميزان القوى"والوجود، من دون أي استثناء لأي طائفة أو فريق، مهما كان حجم هذا السلاح في لبنان. في ظل هذا الواقع، يبقى "قانون الأسلحة والذخائر" الصادر عام 1959 متقادمًا، لا يواكب خطورة الظاهرة اليوم، ولا يحظى بإرادة حقيقية لتطويره. وتُجمع الأوساط القانونية على أن المعالجة تبدأ من تحديث القانون وربطه بصلاحيات تنفيذية صارمة، لكن قبل ذلك، لا بد من قرار سياسي جامع يعلن بوضوح أن لا سلاح خارج الشرعية.
مضاعفة العقوبة خطوة إلى الأمام، لكنها لا تكفي في بلدٍ تُغتال فيه هيبة الدولة يوميًا تحت طلقات "الفرح" و"الاعتراض" و"الاستقواء". المطلوب ليس فقط إنزال أشد العقوبات، بل كسر الحلقة المفرغة التي تربط بين السياسة والسلاح والفوضى. ففي بلدٍ لا يشعر فيه الإعلامي بالأمان خلال عمله، ولا الطفل في بيته، ولا المواطن في يومه العادي، لا يمكن الحديث عن دولة... بل عن غابة تُطلق فيها الرصاصات أولًا، وتُحسب الضحايا لاحقًا.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|