تصعيد "غير مسبوق".. لماذا تصرّ إسرائيل على "تسخين" الجبهات؟!
لم يكن الحزام الناري الذي استهدف منطقة النبطية صباح الخميس، الخرق الأول لاتفاق وقف إطلاق النار في القرى الواقعة شمال الليطاني، التي عاد سكانها ليعيشوا حياة "شبه طبيعية"، رغم كلّ الصعوبات، لكنّه جاء ليعيد أجواء الحرب إلى أهالي هذه القرى، وقد عاشوا ما عاشوه من رعب وهلع بعد سلسلة الغارات العنيفة التي جاءت من دون سابق إنذار، وسُمِعت أصداؤها في كلّ أرجاء القرى الجنوبية وأحيائها من دون استثناء.
وعلى الرغم من أنّ "حصيلة" هذه الغارات لم تكن كبيرة، من حيث عدد الشهداء والجرحى، باعتبار أنّها استهدفت الجبال والأحراج في المقام الأول، إلا أنّها صُنّفت تصعيدًا خطيرًا وغير مسبوق، بمعزل عن حقيقة الرواية الإسرائيلية حول "الهدف المهمّ" الذي تمّ ضربه، أو "البنية التحتية" التي تمّ استهدافها تحت الأرض، ولا سيما أنّ الصور والفيديوهات التي تمّ تداولها ذكّرت بأعنف محطّات الحرب، وبأكبر عمليات الاغتيالات التي شهدتها.
وجاء التصعيد الإسرائيلي غير المسبوق في جنوب لبنان بعيد تصعيد آخر غير مسبوق في اليمن، مع استهداف مطار صنعاء بصورة مباشرة، بعد "إنذار بالإخلاء" مشابه لتلك الإنذارات التي يصدرها الجيش الإسرائيلي كلما أراد استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت مثلاً، علمًا أنّ هذا التصعيد جاء بالتزامن مع إعلان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحوثيين، وهو ما أثار تساؤلات بالجملة.
ويتزامن كلّ ذلك أيضًا، فيما تظلّ "العين الإسرائيلية"، إن جاز التعبير، مركّزة على "جبهة سوريا"، حيث ترفع شعار "حماية الأقليات" عنوانًا لفتنة وتحريض يشكّلان "غطاء" لاعتداءات بلا أفق على الأراضي السورية، ليبقى السؤال القديم الجديد مطروحًا، فلماذا تصرّ إسرائيل على "تسخين" كلّ هذه الجبهات، وعلى رأسها تلك اللبنانية؟ هل تسعى للذهاب إلى جولة ثانية للحرب؟ وماذا عن الرسائل "السياسية" الكامنة خلف التصعيد العسكري المتجدّد؟!.
في المبدأ، لا يمكن مقاربة التصعيد الإسرائيلي في منطقة النبطية، إلا بوصفه اعتداء "خطيرًا"، خصوصًا أنّ حجم الاستهداف ذكّر كثيرين باليوم الأول لتوسّع الحرب، حين بدأت إسرائيل تقصف القرى الجنوبية بصورة عشوائية، لتبدأ عملية "النزوح الكبير"، وحتى "المذِلّ" تحت القصف، وهو ما أثار الهلع لدى كثيرين، من أن يكون ما جرى "مقدّمة" لجولة دمويّة جديدة من الحرب، يرفضها الجنوبيون الذين عانوا الأمرّين في الجولة الأولى.
أكثر من ذلك، ثمّة من يعطي بعدًا أكثر خطورة للحزام الناري الذي شهدته النبطية صباح الخميس، إذ لم يسبق أن شهد أهالي الجنوب على حزام ناري من هذا النوع حتى في "ذروة" الحرب، على الرغم من القصف اليومي، وعمليات الاغتيال، والمجازر التي استهدفت المدنيين، علمًا أنّ هناك من تحدّث عن استخدام قنابل خارقة للتحصينات لم تُستخدَم من قبل سوى في عمليتي اغتيال السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين.
لكن، بعيدًا عن الانطباعات، لا شكّ أنّ التصعيد الإسرائيلي المتجددة يندرج، في القراءة العسكرية والسياسية، في سياق "التكتيك" الإسرائيلي المتَّبَع منذ اتفاق وقف إطلاق النار، والذي تريد من خلاله إسرائيل القول إنّها باتت صاحبة الكلمة العليا على الساحة اللبنانية، وإنّ "حرية الحركة" التي تقول إنّها انتزعتها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، هي حرية شاملة، لا قيود لها، ولا محظورات عليها، بل لا خطوط حمر في سياقها.
هكذا، يمكن فهم التصاعد "التدريجي" للانتهاكات الإسرائيلية، فما بدأ في المرحلة الأولى اعتداءات على قرى الحافة الأمامية، بدأ يتمدّد شيئًا فشيئًا عبر استهداف لنقاط محدّدة، وعمليات اغتيال موضعية، قبل أن يأتي استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت، والآن التصعيد غير المسبوق في النبطية، ليوصل رسالة إسرائيلية مفادها أنّها من تدير اللعبة، وأنّها من تقرّر قواعد الاشتباك، وأنّها مستعدّة دائمًا لكل الخيارات والسيناريوهات.
في الرسائل أيضًا، يمكن القول إنّ إسرائيل من خلال تصعيدها المتجدّد، تدخل على خطّ الاشتباك السياسي القائم حول نزع سلاح "حزب الله"، وتردّ ضمنًا على خطاب الحزب، الذي لا يزال يصرّ على "حصر" المسألة بالقرى الواقعة جنوب الليطاني، وبالتالي فهي باستهدافها ما تقول إنّه موقع بنية تحتية للحزب تحت الأرض في منطقة النبطية، توجّه رسالة أنّها جاهزة للتدخّل من أجل "فرض" نزع السلاح، ولو تطلّب جولة أخرى من الحرب.
وفي السياق نفسه، يقول العارفون إنّ إسرائيل توجّه رسالة عالية السقف عنوانها أنّ نزع السلاح ليس مادة للسجال الداخليّ، بين "حزب الله" وخصومه مثلاً، أو حتى مادة للحوار الثنائي بين الحزب والدولة اللبنانية، أو الجماعي بين الحزب وسائر الأفرقاء، بل هو "بند للتطبيق الفوري"، وأنّ الاستقرار الفعليّ لن يعود إلى الجنوب وغيره من المناطق، ما لم يُصَر إلى تنفيذه، وإنّ الاعتقاد بالتطبيع مع الخروقات لا يصحّ، طالما أنّها في تصاعد مستمرّ.
لكن، أبعد من كل هذه الرسائل، على أهميتها، ثمّة قراءات أخرى، تربط ما جرى من تصعيد إسرائيلي في النبطية، بما يجري من تصعيد في الإقليم، من غزة إلى اليمن وسوريا، ولكن مرورًا أيضًا بإيران، والحوار المفتوح بينها وبين الولايات المتحدة، وكأنّ إسرائيل تريد القول سلفًا إنّها غير معنيّة بأي تفاهمات أو توافقات يمكن أن تفرزها مفاوضات "كسر الجليد" بين الدولتين، وإن بقيت محصورة بالملف النووي الإيراني، دون غيره من الملفات.
ولعلّ تزامن الاستهداف الإسرائيلي غير المسبوق لمطار صنعاء، مع إعلان إدارة ترامب عن هدنة مع الحوثيين، يحمل في طيّاته الكثير من الرسائل المعبّرة في هذا السياق، وكأنّ إسرائيل تعمّدت "تسخين" الجبهة الحوثية في هذا التوقيت بالذات، للقول إنّها ليست موافقة على سياسة التفاهمات هذه، وإنّها ماضية في الحرب على كلّ الجبهات، حتى تحقيق كلّ الأهداف، وفي مقدّمها القضاء على كل التهديدات، وعلى كلّ أشكال المقاومة.
قد لا يعني ما تقدّم وجود "صدام"، أو حتى "خلاف"، بين الولايات المتحدة وإسرائيل، رغم كل التسريبات التي تلمّح إلى ذلك، وهي ليست الأولى من نوعها بالمناسبة، لكنّه يعني أنّ إسرائيل تصرّ على "تسخين" الجبهات لتوجيه رسالة للعالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، أنّها جاهزة لكل السيناريوهات، وأن ما بدأ في السابع من تشرين الأول 2023، لن ينتهي إلا بصورة جديدة للشرق الأوسط، يتلاءم تمامًا مع ما تريده إسرائيل، مهما كان الثمن!.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|