دبوسي عن رفع الحظر الإماراتي عن السفر إلى لبنان: خطوة لتعزيز التعاون
إعمار الجنوب بين الدمار والقرار.. والحظر الدولي
من جديد، يعود ملف الجنوب اللبناني إلى واجهة الأحداث، لا من باب التحرير هذه المرة، بل من بوابة الإغاثة وإعادة الإعمار بعد الحرب الأخيرة، التي أدت إلى دمار غير مسبوق طال البنى التحتية والممتلكات في عشرات القرى الممتدة من الحدود الجنوبية حتى البقاع الغربي وراشيا وصولاً إلى البقاع الشمالي والضاحية الجنوبية لبيروت. في هذا المشهد، برز مجلس الجنوب كأداة الدولة الأولى لمواجهة تداعيات الحرب، لكن في ظل هامش ضيّق تحدّه أزمة مالية خانقة وتعقيدات سياسية تحول دون أي التزام دولي فعلي بإعادة الإعمار.
مسح الأضرار: رقم ضخم والتعويض مؤجّل
في تقرير عن أعماله ما بعد الثامن من تشرين الاول العام 2023، حصلت "المدن" على نسخة منه، وقد رفع إلى رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة، فصّل المجلس بالارقام كيف شرع منذ الايام الاولى للاعتداءات، في تنفيذ خطة طوارئ لإغاثة آلاف النازحين من القرى الحدودية إلى المناطق الآمنة في الجنوب والبقاع وجبل لبنان. وشملت الاستجابة توزيع نحو 240 ألف حصة غذائية، 17 ألف حصة نظافة، وقرابة 42 ألف فرشة، وأكثر من 63 ألف حرام، وقرابة 40 ألف وسادة، إضافة إلى مساعدات في الاستشفاء وتوفير الحد الأدنى من متطلبات العيش.
فور وقف إطلاق النار، أطلق المجلس عملية مسح ميداني واسعة للأضرار، شملت حتى تاريخه 160 ألف وحدة متضررة، منها 17 ألفاً مهدّمة كلياً و143 ألفاً قابلة للترميم، فيما تُقدّر الوحدات المتبقية قيد الكشف بنحو 29 ألف وحدة. وتولّى تنفيذ هذه الكشوفات مهندسو المجلس ومتطوعون من القطاع الخاص، وستُدقّق بعدها من قبل مكتب "خطيب وعلمي"، على أن تُصرف التعويضات لاحقاً عند توفر التمويل، وهو ما لا يزال مؤجلاً لأسباب سياسية ودولية.
باشر المجلس إزالة ركام الأبنية المدمّرة عبر مناقصة عمومية أفضت إلى تلزيم الأشغال بكلفة متدنية نسبياً. وقد قُسم ناتج الردم إلى ثلاث فئات: مواد يعاد تدويرها (كالحديد والباطون)، وعوادم منزلية تُتلف وفق معايير بيئية، ومخلفات عضوية وغير قابلة للاستخدام. وتُقدَّر مهلة إنهاء الأشغال بحدود نهاية حزيران 2025. بالتوازي، أُعيد فتح العديد من الطرقات في القرى الحدودية، بالتنسيق مع البلديات.
القضاء على مقومات العيش
رغم محدودية الإمكانات، أطلق المجلس خطة لترميم المباني الرسمية، وفي مقدمتها المدارس، حيث تم الانتهاء من 16 مدرسة، والعمل جارٍ على 80 أخرى، إضافة إلى 32 مدرسة تم تلزيمها، و46 في مرحلة التلزيم، أي ما مجموعه 177 مؤسسة تربوية.
وشملت أيضاً الترميمات خمسة مستشفيات (بنت جبيل، تبنين، قانا، ميس الجبل، بيت ليف)، وثلاث سرايات (النبطية، بنت جبيل، تبنين)، ومراكز للدفاع المدني. كما يعمل المجلس، بناءً لطلب وزارة الداخلية، على ترميم مراكز الاقتراع في المناطق الحدودية لضمان جهوزية الانتخابات البلدية المقبلة.
ورغم ضخامة الخسائر والحاجة الماسة للدعم، تبقى جهود الإعمار رهينة مواقف المجتمع الدولي، الذي يربط أي تمويل بإعادة الاعتبار لسلطة الدولة اللبنانية وحصرية السلاح بيدها، وبالتطبيق الكامل للقرار 1701، إلى جانب الشروع في الإصلاحات الاقتصادية والمؤسساتية الموعودة.
وقد عبرت الولايات المتحدة بوضوح عن هذا التوجه، من خلال نائبة المبعوث إلى الشرق الاوسط مورغان أورتاغوس، التي لم توفر مناسبة في محطاتها اللبنانية لتذكر أن "أي تمويل دولي يجب أن يمر عبر مؤسسات شرعية، لا تلك التي تتحكّم بها ميليشيا مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة. وأن أي دعم لاعادة الاعمار والسماح بمباشرته لن يحصل ما دام السلاح خارج سلطة الدولة". بدورها، فرنسا كررت مرارًا على لسان مسؤولين كبار أنّ "لا إعادة إعمار بلا إصلاحات، ولا دعم مفتوح بلا سيادة واضحة".
نبيه بري: "أنا بنيت الجنوب"
في هذا السياق، لا يمكن فصل مشهد الجنوب عن الدور التاريخي لرئيس مجلس النواب نبيه بري، ليس فقط بصفته أحد أبرز قادته السياسيين، بل من خلال دوره المباشر في إعمار الجنوب بعد إجتياح عام 1982، وبعد عدوان نيسان 1996، وصولًا إلى ما بعد حرب تموز 2006. ويُسجّل لبري أنّه كان وراء تفعيل دور مجلس الجنوب كأداة تنفيذية إنمائية، ومنصة لتثبيت الأهالي في أرضهم من خلال شبكات الطرق والمدارس والمستشفيات ومشاريع الكهرباء والمياه.
لطالما تباهى بري بأنه هو "من بنى الجنوب". وقد ارتبط إسمه بمجلس الجنوب كمؤسسة تنفيذية إنمائية إستخدمها لتعويض المناطق الشيعية المحرومة، وتحويلها إلى نموذج في الخدمات والمشاريع، وإن كان ذلك قد أدى إلى أعباء إضافية على خزينة الدولة.
لكن الحرب الأخيرة وجهت ضربة قاسية لهذا الإرث، وبتداعياتها المستمرة إلى اليوم، فإنها تهدد بتقويض البنى التحتية التي لطالما إعتبرها بري من ثمار نضاله السياسي. ووفق مصادر متابعة، فإن بري فعّل المجلس مجددًا بتوجيه مباشر منه منذ اللحظة الأولى للعدوان، وجنّد كوادره ومهندسيه في تنفيذ عمليات المسح الإحصائي الشامل للأضرار، والإعداد للتقارير الرسمية التي تُرفع إلى الجهات المانحة والدولية.
وبحسب معنيين، فإنّ تأثير بري في هذا الملف لا يزال كبيرًا، سواء لجهة توجيه الأولويات أو ضبط إيقاع العمل التنفيذي للمجلس، علمًا أن ذلك يتم في ظل ظروف تمويلية قاسية ومناخ سياسي داخلي يزداد توترًا نتيجة الانقسام حول سلاح حزب الله وموقع الدولة في معادلة القرار السيادي.
هذا الإرث التاريخي لبري، الذي كان مصدر قوة سياسية وشعبية له لعقود، بات اليوم على محك الاستمرارية، أمام واقعٍ يفرض شروطًا جديدة للإعمار، ليس فقط من بوابة المال، بل من بوابة السيادة، والوضوح في الجهة التي تحكم وتفاوض وتتلقى الدعم وتنفذ. وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات عما إذا كانت المرحلة المقبلة ستشهد إعادة تعريف لدور مجلس الجنوب، أو محاولة تجديد لصيغته بوصفه مؤسسة خدماتية تتخطى الاصطفافات، أو ما إذا كانت التجربة الحالية ستكون آخر ما يستطيع فعله ضمن التوازنات القائمة.
أرقام الأضرار مخيفة
في الحصيلة الأولية التي أعدّها مجلس الجنوب في التقرير الذي رفعه إلى رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة، قدرت كلفة الأضرار بمئات ملايين الدولارات. لكن السؤال الذي يطرحه المراقبون اليوم: ما جدوى المسح إن لم يُصرف التعويض؟ وهل من قدرة فعلية للدولة على فرض شروطها على المجتمع الدولي ما دامت تتردّد في حسم مسألة حصرية السلاح وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة؟ يقف الجنوب اليوم على مفترق طرق: إما أن يكون بوابة لنهج جديد في الحكم والسيادة، وإما أن يبقى ساحةً معلّقة بين الإعمار والانتظار، وبين سلطة معلنة وأخرى مفروضة.
ما يُنفّذه مجلس الجنوب من أعمال إغاثية وإنشائية بعد حرب الاسناد في تشرين الاول 2023 هو بلا شك جهد حيوي وضروري لتثبيت الناس في أرضهم، والتخفيف من تداعيات الكارثة على المستويين الاجتماعي والخدماتي. غير أن هذا الجهد، وإن بدا فعّالًا في معالجته العاجلة للأضرار، يظل مرهونًا بسياق سياسي وأمني أشد تعقيدًا.
فأي إعادة إعمار لا تنطلق من قواعد الشفافية، ووضوح الصلاحيات بين الدولة والقوى التي تتجاوزها، تبقى عرضة للتعطيل والتسييس. تجربة ما بعد حرب تموز 2006 لا تزال ماثلة، حين استُثنيت الدولة من إدارة الإعمار لمصلحة منظومات حزبية، وتُرك الجنوب رهينة لمعادلات إقليمية لم تَصُن أمنه ولا إقتصاد أهله.
إن إستمرار إزدواجية القرار الأمني، والتباطؤ في تنفيذ القرار 1701، وغياب المساءلة في كيفية إدارة أموال الإعمار، كلّها عوامل تُفقد أي خطة ترميم من مضمونها السيادي والمؤسساتي، وتُهدد بتحويل الجنوب إلى ساحة دائمة لإعادة الكرّة، بدل أن يكون منطقة محمية بسيادة الدولة ومزدهرة بالتنمية المستدامة.
ولذلك، فإن المطلوب اليوم ليس فقط تمويل الإعمار، بل إعادة بناء الثقة بالدولة، من خلال قرارات جريئة تُعيد الاعتبار لسلطتها الحصرية، وتضع حدًا لتكرار النكبات تحت شعار "المقاومة"، فيما المواطن يُترك وحيدًا في مواجهة الخراب.
ندى انداروس - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|