رشاوى "تحت الطاولة" في قصر عدل زحلة... فضيحة "مدوية" برسم المعنيين!
الفَجوَة المَاليَّة... مِن شَطب الوَدائع إلى َشَطب المُحاسَبَة
بالإضافةِ إلى أزمَتِهِ السياسيَّة العَصيّة، يشهد لبنان جَدَلاً واسعاً وَعَميقاً، فَجَّرَهُ تَسريبٌ لا يُمكن فَصلُهُ عَن السياق السياسي والماَلي لِمَشروع قانون "الفَجوة الماليَّة". التَّسريبٌ الذي يَبدو مَقصوداً، لا مِن حيث التوقيت فحسب، بَل مِن حيث المضمون أيضاً، جاءَ في لحظةٍ لا يَزال فيها الخِلاف قائماً حَول الحَجم الحقيقي لِلفجوة. ليس العائق تَعقيد الأرقام فَقَط، بل كَونَ الاتفاق على رقمٍ موحّد يعني حُكماً الاتفاق على تَحديد المسؤوليات، والانتقال من مَنطِق إدارة الأزمة إلى مَنطِق مُعالجَتِها وهذا ما لا يبدو مُتاحاً حتَّى الآن. فالتباين القائم بَين تَقديرات الدَّولة وَمَصرِف لُبنان والمصارف لا يَعكِس اختلافاً تِقنياً بريئاً، بل يَكشِفُ بِوضوح غِياب الإرادة السياسيَّة للذهاب نحو حلٍّ يَقوم على المُحاسبة والإصلاح البُنيوي. في هذا الإطار، لا بُدَّ مِن التذكير بِأنَّ تقارير صُندوق النَّقد الدولي والبَنك الدولي شَدَّدَت مِراراً على أنَّ تَوحيد الأرقام شرطٌ إلزامي لأي خطة تعافٍ جِدية. فالأرقام ليست تفصيلاً تقنياً قابلاً للتفاوض، بل هي المدخل الطبيعي لِتوزيع الخسائر بِعَدالة، ولِتَحديد مَن أخطأ وَمَن استَفاد ومن قَصَّر.
الأخطر مِن ذَلك هو الدَّفع المتزايد باتجاه الاستِعجال في إقرار قانون الفَجوة الماليَّة، وكأنَّهُ قانونٌ عاديٌ أو بَندٌ مُلحق بِقوانين المُوازنات الدفتريَّة المُحاسَبيَّة التي اعتادَ لُبنان تَمريرَها تَحتَ ضَغط الوَقت والضَّرورَة. إلا أنَّ قانون الفَجوَة الماليَّة لَيسَ قانوناً ظَرفياً أو تِقنياً مَحدودَ الأثَر، بَل هو قانونٌ ذو بُعد استراتيجي تأسيسي، يَرسُمُ مُستقبل النِّظام المَالي والمَصرفي لِعُقود، وَيُحَدّد مَصير الوَدائع، ويُعيد تعريف العلاقة بين الدَّولة والمُواطن والمَصرف، وَبين النظام المَصرفي والمُستثمرين كَما يُعيد رَسم دَور الدَّولة نَفسَها في بِناء الاقتصاد. إنَّ الاستعجال في إقراره، من دون نقاش عَام شفاف، وَمِن دون أرقام مُوَحَّدة، وَمِن دُون تَحديد واضح للمسؤوليات، يُشَكّل خطراً بالغاً، لأنه قد يُكرّس ظُلماً دائماً تَحتَ عُنوان حلٍّ سريع. فالقوانين التأسيسيَّة لا تُقاس بِسُرعة إقرارها، بَل بِقُدرتها على الصُّمود، وبِعَدالتها، وَبِقدرَتِها على مُعالجة أسباب الأزمة وَليس على التَّخلص مِن نَتَائِجِها.
إنَّ اللجوء إلى تَسريب مُقاربات تَقوم عَمَلياً على مَبدأ "عفا الله عمّا مَضى"، عَلى حِساب المُودعين والوَدائع، وعلى أنقاض القطاع المصرفي الحالي لا يسيء فقط إلى العَدَالة الاقتصاديَّة. بل إنَّه يسيء أيضاً إلى العَهد، وَيَتناقض بِوضوح مَع خطاب القَسَم ومَعَ البَيان الوِزاري اللذيَن شَدَّدا على استعادة الدَّولة، وحِماية حُقوق المُودعين. أزمَة لُبنان لَيست نَتيجة "كَارِثَة طبيعيَّة" بَل نَحنُ أمامَ أزمة نظاميَّة غَير مَسبوقَة، نَتَجَت عَن سياسات ماليَّة ونقديَّة خاطِئَة، وَعَن عَجزٍ بُنيوي في الدَّولة، ومُمارسات مَصرفيَّة عَاليَة المَخاطر جَرى التَّغاضي عَنها لِسَنوات طَويلة. لذلك، فإنَّ تَحميل المصارف وَحدَها كامِل المَسؤولية تَبسيطٌ مُخلّ، كما أنَّ تَبرئتها خطأٌ جَسيم. فالنظام بأكمله شَارَكَ في إنتاج الانهيار، وَكُلٌ رُكنٍ مِن أركانِهِ، مِن دون استثناء، مُطالبٌ بِتَحمُّل حِصَّتِهِ العَادلة مِنَ الخَسائر.
إنَّ تَغييب المُحاسبة هوَ جَوهر الخَلَل في المُقارَبَة المُسَرَّبَة، وَهو ما يَجعَل تَحميلَ الخَسائر لِلحلقة الأضعف أمراً حَتمياً، أياً تكن الجهة التي يُقال إنها تتحمّلها. ففي غياب المحاسبة، لا تعود المسألة مسألة توزيع عادل للخسائر، بل عَملية تَرحيل مُنظّمة لَها نَحو مَن لا قدرة لهم على الاعتراض. فَإنْ تَحَمَّلَت الدَّولةُ الخسائر، فإن الواقع سيترجم ذلك ضرائب إضافية، وتضخّماً مُزمِناً، وتآكلاً في الخَدمات العامَّة، يَتحملها حَصراً المُواطن الصَّالح الذي يَلتزم بالقانون. وإذا تَحَمَّلَت المَصارِف الخَسائر، فإنَّ النتيجة العَمَليَّة، في ظل غِياب الرَسملة والمساءلة، سَتَكون تَحميلَها للمودعين بِشكلٍ مُباشر أو مُقنَّع. في الحَالتين، النَّتيجة واحِدة: تَحميل الخَسائر لِمَن لا ذَنب لَهُم.
وتَكشِف التَّسريبات المُتداولة، أنَّ مَشروع القانون الذي يَتِم العَمَل عَليه لا يَكتَفي بإعادة توزيع الخَسائر بِشَكلٍ غَيرَ عادل، بَل سَيَتَسَبَّب بشطب كامل للودائع من دون أي استثناء. فالمُقاربة المقترحة تَتَجاهل بشكل مُريب الوَدائع بالليرة اللبنانية، فيما تَعمَدُ مِن جِهة أُخرى إلى تَحميل الدَّولة الخَسائر دفترياً ثُمَّ الى تَحريرِها مِنها عَبر إصدار سَنَدات دَين فاقِدَة للثقة ولِلقيمَة عِندَ الإصدار. بالتوازي، يُلقي المشروع المُسَرَّب الجِزء الحَقيقي من الخَسائر على المَصارِف وَحدها، وهي بالطبع شريكة في الازمة دونَ أن تَكون هي المُسَبب الوَحيد لّها، مِمَّا قد يؤدي الى إفلاسها أو تفليسها عَبرَ قانون إصلاح المَصارِف والذي كانَ من الأجدى تَسميَتُهُ "قانون إفلاس المَصارِف". يؤدي ذلك حُكماً إلى القضاء عَلى أي قُدرة مُستقبلية على ردّ الودائع أو استعادتها تَدريجياً. هَكذا، لا يَكون المَشروع المُقترح خُطة تعافٍ، بَل خُطة شَطب شَامل للودائع تَحتَ عَناوينَ تِقنيَّة مُضَلِّلة، وبِمنأىً عَن أي مُحاسَبَة جِديَّة للمسؤولين عَن الانهيار. هذه المُقارَبة ليست إلا هروبٌ منظّمٌ مِن المُحاسَبة يَمنح المُرتكبين في الدَّولة وفي النظام المَالي صَكَّ براءةٍ جديد، وَيَفتح البَاب أمَامَ إعادة إنتاج المَنظومة نَفسها بأدواتٍ جَديدةٍ وَوُجوهٍ مختلفة.
إنَّ سَحق القِطاع المَصرفي القائِم، والدَّفع نَحو إفلاسِهِ الشَّامل، هوَ بِمثابةِ إعادة إحياء خُطَّة "المَصارِف الخَمس" السَّيئة الذِكر والفِعل. هذه المُقاربات هي مغُامرة خطِرة ستؤدي حتماً إلى فَجوة مَاليَّة جديدة، وإلى إعادة إنتاج الزَّبائنية والفَساد نفسيهما اللذَيْن أوصلا لُبنان إلى الانهيار بالإضافة الى تَعريض الاقتِصاد والقِطاع المَصرفي لِخَطَر العُقُوبات. فالتجارب الدُوَليَّة، كَما يبيّن صُندوق النقد الدولي، تؤكد أنَّ إعادة هَيكلة المَصَارِف يَجِب أن تَتِمَّ عَبرَ الاستمراريَّة، وإعادة الرَّسملة، والحَوكمة الرَّشيدة، لا عَبرَ الهَدم الكَامِل ومَحو الذَّاكرة المَصرفيَّة. في سياقٍ مُتَّصِل، نُشّدِّد على أنَّ القَضاء على المَصَارِف الحَاليَّة يَعني عَمَلياً شَطب القَواعد البَيانيَّة المَصرفية، وَهي رُكنٌ أساسيٌ لأي نُهوض اقتصادي ولأي استعادة للِثِقَة. أمَّا الحَديث عَن بَدَائِل مَصرِفيَّة في ظِلّ غِياب المَصَارِف الأجنبيَّة والعَرَبيَّة، فَيَبقى مَوضِعَ شكٍّ مَشروع، إذ يَفتَح البَاب أمامَ نَماذِجَ قَد تَحمِل أجندات مَاليَّة أو سياسيَّة خاصَّة، ما يُهَدد سيادة القَرار المالي. فالسؤال الجوهري يبقى: من سيستثمر في بلد لم يُصلح نظامه بَعد؟ والجواب، للأسف، مُقلق كي لا نَقولَ مُخيف!
الفَجوَة الماليَّة لَيسَت فَجوة أرقام فَحَسبْ، بَل فَجوةُ ثِقَة وَعَدالة وَمَسؤولية وَقَرار سيادي بامتِياز! لا يَجِب أن تَكون مُقارَبةَ مَلَفّ بِهَذا الحَجم مُتسَرِّعة، بَل مِن الطَّبيعي أن تَكونَ مُرتكزاً للمُستَقبَل ولِنُهوض الاقتصاد ولاستعادة الثّقة. يَتَطَلَّبُ ذَلك تَلازم المُحاسبة والإصلاح في ظِلّ استقرار سياسي مُستَدام...
فالإصلاح مِن دُون مُحاسبة وَهمْ، والمُحاسبة مِن دُون إصلاح انتِقام! أمَّا شَطب الوَدائع تحت أي مُسمّىً فَجَريمَةٌ مَوصوفَة.
في الخُلاصة، إمَّا دَولة تُحاسب وتُصلح، وإمّا فجوة جديدة تُضاف إلى فجوات لُبنان الكَثيرة، بَل جُرح يُضاف الى جُروحِه المَفتوحَة في زمَنٍ نأمله لالتئام الجروح وعَودة الأمَل...
البروفسور مارون خاطر، باحث في الشؤون الماليَّة والإقتصاديَّة
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|