بثانية واحدة.. أبل تطلق نموذج يحوّل الصور ثنائية الأبعاد إلى ثلاثية
لبنان يريد السلام… لكن أيّ سلام؟
لبنان يريد السلام، هذا حقيقي ولا داعي لنضع الجملة بين قوسين، طالما أنّ السلام هو الأصل والقاعدة، والحروب ضرورة واستثناء.
هل تميل فطرة الإنسان إلى الحرب أساساً؟ أم إلى السلام؟ سؤال يخضع للنقاش، لكنّ الإنسان ابن بيئته، وهذا قد يعني أنّ فطرته لا تميل إلى شيء بعينه، لا إلى الحرب أو السلام، الإنسان يحمل في داخله الاستعدادين معاً. أشياء كثيرة تجعله يميل، ما كان وما سيكون وما يفرض عليه، الثقافة أيضاً، الوضع القائم، والظروف، عوامل كثيرة وكثيفة هي التي قد ترجّح أحد الاحتمالين على الآخر.
لا تقول دراسات علم النفس إنّ الإنسان كائن حربي بالفطرة، بل على العكس، تشير أبحاث منشورة في مجلات علمية إلى أنّ التعاون والأخلاق الجماعية كانا شرطين أساسيين لبقاء الإنسان وتطوّره، وأنّ العنف يظهر غالباً بوصفه استجابة للتهديد، لا كغريزة ثابتة.
هذه فرضيّة، وفي حال أردنا إسقاطها على ما يحدث في لبنان، والقول إنّ هذا البلد يريد السلام "وتعب" من الحروب، فهذا المطلب، المحقّ في شكله، غير مكتمل العناصر، ليس لعدم وجود النيّة، بل لغياب حضور الأطراف.
ورغم ذلك، ثمّة من يريد أن يقسّم اللبنانيين إلى فريقين؛ الأول يريد "السلام" ويفعل أيّ شيء من أجل تحقّقه، والآخر يرفضه "ويصرّ على أن يموت ويبقي الجبهات مشتعلة".
في هذه المادة لن نذهب بعيداً في الحديث عن السلام وتعريفاته منذ بزوغ البشرية، أبداً، سنتحدّث عن اتفاق "السلام" الذي بدأ في 26 تشرين الثاني/نوفمير عام 2024ــ، التاريخ الذي تمّ التوصّل فيه إلى اتفاق بين لبنان والطرف الإسرائيلي يقضي بوقف "الأعمال العدائية" وإنهاء الحرب التي كانت قائمة.
بعد هذا التاريخ الذي رفعت فيه كلّ الأصوات مطلب السلام عالياً، بدأ بعض اللبنانيين في العودة تدريجياً إلى قراهم محمّلين بجراحهم وخسائرهم، عادوا إلى بيوتهم التي وقعت أو كانت على وشك، والتفاصيل في هذا المورد كثيرة. لكنهم عادوا لأنّ السلام قد حلّ، وعُرّف وبدأ سريانه، لكنه لم يكن حقيقياً، بدليل أنه لم يعش، وإذا كان هناك من يدّعي بوجود سلام رغم غيابه فهل هذا يعني أنّ علينا تجزئة السلام إلى أنواع وإعادة تعريفه؟ نصف حقيقي؟ شيء قريب من السلام لكنه ليس هو؟ إذا كان الجواب لا، وهذا ما يجب أن يكون، فهذا يعني أنّ السلام في الحالة اللبنانية لم يكن موجوداً، لم يكن ولم يصبح ولم يتحقّق.
منذ ذلك التوقيت، وحتى اليوم، اتفاق وقف اطلاق النار كان شكليّاً وهشّاً، ليس لأنّ لبنان لم يلتزم به، بل لأنّ "إسرائيل" لم تفعل. وهذا الكلام وثّقته الأرقام الرسمية الدولية، وقوات اليونفيل. في المقابل، لم يطلق حزب الله رصاصة واحدةـ، التزم بالاتفاق أياً كانت أسبابه، لكنه التزم في النتيجة.
لنعد "للسلام" مع قوسين هذه المرة
"السلام" ليس حدثاً واحداً بل منظومة. أمنٌ بلا تنمية يُنتج خوفاً دائماً، وتنمية بلا حقوق تُنتج قهراً مؤجّلاً، وحقوق بلا أمن تبقى وعداً هشّاً. في المحصّلة، السلام حالة توازن. وهو لا يختزل بغياب الحرب فقط. هو تركيب أكثر تعقيداً.
حسناً أيضاً، المفهوم العالمي للسلام، يقوم كما استقرّ في أدبيات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، على ثلاثة عناصر مترابطة، ولا يُعدّ السلام قائماً إذا غاب أحدها: الأمن (غياب العنف والنزاعات المسلحة)، حماية الأفراد والمجتمعات، وجود آليات تمنع تفجّر الصراعات أو عودتها، أي أنّ السلام لا يبدأ من وقف الحرب فقط، بل من منع شروط اندلاعها. آلاف التعريفات في الكتب ومحرّكات البحث تعرّف السلام، منها مثلاً موافقة جميع الأطراف على الهدنة، عدم التحيّزـ، عدم استخدام القوة، وتعريفات حقوقية لا تنتهي.
في الحالة اللبنانية، الجميع يدّعي أنّ البلاد تريد السلام، مع فارق الشكل والطريقة وآليات التنفيذ.
"إسرائيل" مثلاً، ترى "السلام" مرادفاً للخضوع، أي نقاش أو جدال في طريقة التهامها للمنطقة يعدّ محاججة "غير مجدية".
في المقاربة الإسرائيلية، السلام لا يُقاس بما يشعر به الطرف الآخر، بل بمدى غياب الخطر عنها. هو حالة أمنية تُدار، لا علاقة متوازنة تُبنى، ولهذا يمكن للهدنة أن تتعايش مع الخروقات، وللاستقرار أن يقوم على هشاشة دائمة لدى الطرف "الأضعف".
بالنسبة لـ "إسرائيل"، يمكن لاتفاق وقف إطلاق النار أن يتعايش مع آلاف الانتهاكات، طالما أنّ ميزان الردع لا يميل ضدّها، وطالما أنّ الكلفة الأمنية تبقى مضبوطة. السلام، في هذه المقاربة، ليس إنهاءً للصراع، بل الشكل الأقلّ كلفة لإدارته.
بهذا المعنى، يتحوّل وقف إطلاق النار إلى مساحة رمادية: لا حرب شاملة، ولا سلام فعلياً. حالة تسمح باستمرار الضغط، وتُبقي لبنان في حالة انتظار دائم. وهو "سلام" يمكن أن يكون كافياً من الجهة الإسرائيلية، ومُنهكاً للبنان.
"إسرائيل" تريد أن يسلّم الآخر، أي آخر، سلاحه طالما قد يرفع في وجهها.
في المقابل، ثمّة حالة انقسام واضحة بين الأطراف في لبنان. هناك من يرى أنّ السلام يمرّ عبر التخلّي عن السلاح، وترك المبادرة كاملة للطرف الآخر، أي الاستسلام لشروط العدو باعتبار أنّ الخيارات "ضيّقة".
هذا الطرف يرى أنّ الدبلوماسية الناعمة والضغوط الدولية تنفع مع "إسرائيل"، علماً أنها لم تنفع حتى اللحظة، وترى في السلاح استفزازاً للعدو، فالسلام - بنظر هؤلاء- يعني أن يتجرّدوا من قوتهم بانتظار قرار أصحاب ربطات العنق. فيما لو سألتهم عن الضمانة الحقيقية لتحقيق السلام الذي يريدونه، لن تجد جواباً لأنهم لا يملكونه بالأساس.
وهناك أيضاً، طرف يرى في المقاومة وسيلة للحفاظ على الكرامة والسيادة، ومن خلالها تحقيق شكل من السلام الممكن: سلام قائم على قدرة المجتمع على الدفاع عن نفسه، على التوازن مع الخارج، وعلى ضمان عدم تحوّل التهديد المستمر إلى واقع دائم.
هؤلاء يعتبرون أنّ الاستعداد والمواجهة، في ظروف معقّدة كالتي يمرّ بها لبنان، جزء من البناء الأمني الذي يتيح لاحقاً للسلام أن يكون حقيقياً ومستداماً، لا مجرّد هدنة مؤقتة.
هذه الفئة ترى أنّ السلاح هو القوة في مواجهة الوحش، لترويضه أو القضاء عليه، أما الجلوس إلى طاولة المفاوضات والنقاش مع العدو، أيّ عدو، لا ينفع إذا لم يكن السلاح ملقّماً.
هذا الطرف لا يرى السلام نهايةً للعداء، بل إطاراً لضبطه: منع الاعتداء، وقف الخروقات، وتثبيت معادلة توازن تحمي لبنان من دون ادّعاء مصالحة. وهو لا يرى في استمرار العداء خياراً أيديولوجياً بقدر ما يراه توصيفاً واقعياً، لأنّ "إسرائيل" عدوٌّ لم تتوقّف أطماعه، ولم تُنهِ تاريخها مع الاعتداءات والخروقات. في هذا الفهم، العداء ليس قراراً عاطفياً، بل نتيجة مسار طويل تشهد عليه الوقائع والتجربة، ويؤكّده تاريخ لم يُقفل بعد.
لا خلاف في لبنان على الرغبة بالسلام، بل على تعريفه. بين من يراه سلاماً يُبنى على القوة، أو سلاماً يُبنى على التخلّي عنها، ولا يدور النقاش حول حبّ السلام أو كراهيته، بل حول واقعيّته.
سلام يُطلب من طرف واحد، ويُدار مع وحش لا يعترف إلا بميزان القوة، لا يكون سلاماً بقدر ما يكون تعليقاً مؤقتاً للخطر. والسؤال المعلّق حتى اللحظة: كيف يمكن بناء سلام، حين يكون الوحش شريكاً في تعريفه؟
فاطمة خليفة - الميادين
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|