"القوات" والرئاسة: تقاطع في المبدأ… افتراق في الطريق!
تعيش العلاقة بين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس الجمهورية جوزاف عون حالة من التباين السياسي، خصوصًا حول الملفات السيادية الحساسة وعلى رأسها مسألة سلاح حزب الله. هذا التباين لا يقوم على اختلاف في المبادئ، فكلا الطرفين يؤكدان احتكار الدولة للسلاح، بل يكمن في مقاربة كل منهما لكيفية الوصول إلى هذا الهدف.
في خلفية هذا المشهد، تتحرك طروحات جعجع وطموحاته التي باتت حاضرة أكثر في أدائه السياسي، بينما يحاول الرئيس عون إدارة الدولة من موقع الحَكَم، متفاديًا الانزلاق في مواجهة قد تهدد السلم الأهلي. وتنعكس هذه التباينات في سلوك القوات داخل الحكومة وفي مواقفها من العهد، والتي تبدو أحيانًا أقرب إلى اعتراض منظم منها إلى معارضة داخل المؤسسات.
السلاح بين المبدأ... والوسيلة
من حيث المبدأ، لا خلاف بين جعجع والرئيس عون على أن الدولة يجب أن تكون الجهة الوحيدة التي تحتكر السلاح والقرار الأمني والعسكري. لكن ما يفرّق بين الرجلين هو الطريقة والزمن.
فجعجع يرى أن نزع سلاح حزب الله يجب أن يتم فورًا، حتى ولو بالقوة إذا تطلب الأمر، لأن استمرار وجوده يُقوّض سيادة الدولة ويمنع قيام مؤسسات فعالة. وقد صرّح أكثر من مرة أن "أي نقاش حول بناء دولة لا معنى له طالما هناك سلاح غير شرعي موازٍ للجيش". هذه النظرة الصدامية تُترجم في خطابه السياسي على أنها "معركة وجود"، أكثر منها قضية خلافية عادية.
وفي هذا السياق، يقول النائب عن تكتل الجمهورية القوية غسان حاصباني لـِ "المدن" إن خطاب جعجع الأخير لم يتطرق إلى نزع سلاح حزب الله بالقوة بل ركّز على نقطة أساسية أن الجيش بحاجة إلى موقف سياسي حاسم. الجيش ينفّذ قرار السلطة السياسية، ولا يمكن ترك العبء عليه وحده في ظل مواقف حزب الله التي تتحدى قرار الدولة. لذلك يجب على رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة أن تقدم موقفًا واضحًا غير قابل للتأويل."
يضيف حاصباني أن "المشكلة ليست بالمبدأ، بل بالتطبيق. فخطة الجيش التي نوقشت في مجلس الوزراء نصّت على حصر السلاح جنوب الليطاني في المرحلة الأولى، ثم الانتقال لاحقًا إلى مرحلة تمتد شمالًا لتشمل كل لبنان، لكن ما يظهر في النقاش العام يخلق ضبابية، من فكرة احتواء السلاح بدل احتكاره، إلى قول حزب الله إنه لن يسلّم السلاح، بينما لا يصدر عن الحكومة ما ينفي أو يوضح أو يؤكّد هذا الكلام، ما قد يُفهم دوليًا على أنه قبول ضمني بالأمر الواقع خصوصا أن المجتمع الدولي يسمع سردية إسرائيلية عن السلاح، وسردية من حزب الله، ولا يسمع سردية لبنانية واحدة وواضحة".".
في المقابل، يتبنّى الرئيس جوزاف عون موقفًا أكثر تحفّظًا وحذرًا. فهو لا يقل تمسكًا بمبدأ حصر السلاح بالدولة، لكنه يرى أن طرح نزعه بالقوة قد يهدد السلم الأهلي، ويدفع البلاد إلى مواجهات أهلية مدمّرة. لذا، يعتمد عون سياسة "الاحتواء الهادئ" عبر دعم الجيش ورفع جهوزيته، بالتوازي مع تحييد البلاد عن التوترات الإقليمية، تمهيدًا للوصول إلى بيئة داخلية ودولية تسمح بإتمام هذه الخطوة دون تكلفة كبيرة.
هذا الفارق في المقاربة يجعل العلاقة بين الجانبين مشوبة بالحذر، خصوصاً أن كل طرف يرى أن الآخر يُقصّر في حماية الدولة من زاويته الخاصة.
جعجع: من هندسة الاستحقاقات إلى الطموح الشخصي
في السنوات الماضية، كان لسمير جعجع حضور مؤثر في مسار الاستحقاقات الرئاسية، إذ يعتبر نفسه عرّاب الرؤساء بسبب قدرته على التأثير في تسمية المرشحين ودفع التحالفات باتجاهات معيّنة، مثل ما حدث عند انتخاب ميشال عون.
لكن بعيداً عن هذه الاستراتيجية، لجعجع طموح رئاسي، وهو من كان مرشحاً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. في هذا السياق، يتعمّد توجيه انتقادات مباشرة للرؤساء المتعاقبين، بمن فيهم الرئيس جوزاف عون، معتبرًا أنهم يحتاجون إلى جرأة أكبر لمواجهة ملفات بحجم سلاح حزب الله أو الفساد المؤسسي.
ويرى مراقبون أن هذا السلوك؛ أي دعم الرئاسة في البداية ثم الانتقال إلى نقدها، ليس عشوائيًا، بل هو جزء من بناء سردية سياسية تقدم جعجع كخيار مختلف وجاهز للقيادة، مدعومًا بأكبر كتلة نيابية مسيحية ، وخطاب واضح المعالم داخليًا وخارجيًا.
وزراء القوات: التباين والمواقف الثابتة
من داخل الحكومة، يبرز وزراء حزب القوات ككتلة منظمة تحفظ لنفسها هامشًا من الاستقلالية عن سياق التوافق الحكومي. تسريبات من جلسات مجلس الوزراء كشفت أكثر من مرة أن وزراء القوات يسجلون تحفظات على قرارات محورية، لا سيما تلك المرتبطة بالأمن والسيادة والحوكمة.
ولا يمر أسبوع دون أن تُنقل مواقف متمايزة لهم، سواء عبر الإعلام أو في محاضر الجلسات، ما يعطي انطباعًا بأنهم لا يسهلون عمل العهد، بل يراقبونه من موقع نقدي. من وجهة نظر القوات، هذا الموقف ليس تعطيلًا بل محاولة لتصويب الأداء التنفيذي نحو المسار السيادي والمؤسساتي. أما من وجهة نظر العهد وبعض الشركاء في الحكومة، فالأمر يبدو أشبه بـ"معارضة داخلية" تُثقل العمل الحكومي وتمنع اتخاذ القرارات بسلاسة.
في هذا الإطار يقول النائب السابق الدكتور فارس سعيد لـ"المدن" انطباعي أن الموضوع ليس منافسة سياسية بين رئاسة الجمهورية وموقع مسيحي مهم كموقع القوات اللبنانية، بل أعتبر ان ليس من مصلحة أحد من الأطراف إضعاف الدولة اللبنانية إلا حزب الله، ومن هنا التباين في المقاربات حول آلية بسط سلطة الدولة سيادتها على كل الأراضي اللبنانية، وأعتقد أن على رئيس الجمهورية الاستفادة من هذه التباينات لتعزيز مفاوضاته مع حزب الله".
في هذا الإطار يقول حاصباني: "إن القوات اللبنانية، تدعم السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية في الخط الذي اختاراه، أي خطاب القسم والبيان الوزاري، لكنها تطرح ملاحظات على وتيرة العمل ودرجة الوضوح، لأن هذه المرحلة تتطلب خطوات أسرع ومواقف أوضح، احترامًا لما تم الالتزام به، وهذا، برأيي، ليس خلافًا سياسيًا، بل نقاشاً داخل المؤسسات لضمان الوصول إلى النتيجة المرجوّة، طالما أن الاستراتيجية العامة لم تتغيّر".
استقبال البابا وتصريحات بين السطور
ظهر التوتر السياسي بين الطرفين أيضًا في محطات رمزية حساسة. عند زيارة البابا إلى لبنان، لم توجَّه دعوة إلى سمير جعجع لحضور مراسم الاستقبال في قصر بعبدا، ما أثار استغراب "القوات"، خصوصًا أن الحدث يحمل طابعًا مسيحيًا جامعًا. وقد بررت الرئاسة غياب الدعوة بالقول إن جعجع لا يحمل صفة رسمية، وإن البروتوكول اقتصر على النواب والوزراء الحاليين. لكن في الأوساط القواتية، اعتُبرت الخطوة "دعسة ناقصة" تعكس طبيعة العلاقة مع الرئاسة.
كما أثار تصريح للرئيس جوزاف عون قال فيه إن "بعض اللبنانيين في الولايات المتحدة يبخّون السمّ على بعضهم البعض"، موجة من التأويلات، حيث فُسّر في الإعلام السياسي اللبناني على أنه غمز من قناة القوات اللبنانية والمغتربين المؤيدين لها، الذين ينشطون في نقل رسائل سياسية إلى دوائر القرار الأميركية.
إلى أين تتجه القوات؟
أداء "القوات اللبنانية" تحت قيادة جعجع يوحي بأنها اختارت موقعًا واضحًا: المعارضة السيادية من داخل المؤسسات. هذا التموضع يرضي قاعدتها المسيحية الأساسية، لكنه يثير تحديات سياسية على مستوى التحالفات، خصوصاً في ظل نظام يحتاج إلى تسويات مستمرة.
قد ينجح جعجع في ترسيخ صورته كزعيم صلب في زمن الميوعة السياسية، وقد يحصد دعمًا شعبيًا من فئات تشعر أن الرئاسة الحالية لا تمثّل تطلعاتها. لكن بالمقابل، فإن استمرار نهج الاعتراض الدائم على السلطة، خصوصًا في لحظات وطنية مفصلية، قد يُفسر على أنه انغلاق سياسي يعزل الحزب عن شراكات أوسع.
العلاقة بين سمير جعجع والرئيس جوزاف عون ليست علاقة خصومة، لكنها أيضًا بعيدة عن التنسيق الطبيعي بين طرفين يشتركان في العنوان السيادي ذاته. الاختلاف في المقاربات، وطموح جعجع الرئاسي، والمواقف الحكومية المتباينة، تجعلنا امام مشهد مركب يجمع بين التكتيكات والإستراتيجيات، بالإضافة إلى المنطق الانتخابي.
مع اقتراب المواعيد الانتخابية، تظل العلاقة بين الطرفين أسيرة التناقض، فهي ليست قطيعة مفتوحة ولا تحالفاً محتملاً. هذا الوضع يمثل توازناً بين خلافاتهما السياسية والإطار الدستوري الملزم.
إبراهيم الرز- المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|