جعجع: تعامل بري مع تعديل قانون الانتخابات يشكّل ضربا عرض الحائط بالمهل الدستورية
إعادة رسم نفوذ القوى التقليديّة في بيروت مع تلاشي "تداعيات" 17 تشرين
منذ ما سمي بـ"انتفاضة" 17 تشرين، بدا أنّ المشهد السياسي في بيروت يدخل مرحلة إعادة توزيع عميقة لنفوذ القوى التقليدية.
ودخلت بيروت مرحلة سياسية جديدة. تبدّلت التحالفات، تفككت شبكات نفوذ راسخة، وتقدّم لاعبون جدد في مواجهة أحزاب وبيوتات تاريخية. المدينة التي تُعدّ مختبرًا سياسيًا للبنان كلّه، شهدت – خلال خمس سنوات – إعادة تشكيل شبه كاملة للخريطة الانتخابية والاجتماعية، بين شارع ناقم، وشارع تعب، وأحزاب أعادت ترتيب أوراقها وفق قواعد مختلفة.
ولم تكن التغييرات صاخبة أو فورية، بل تشكّلت على مدى سنوات عبر انكفاء بعض القوى عن الشارع، وانزلاق مجموعات جديدة إلى الفراغ الذي خلّفته الأحزاب الكبرى.
وفي الوقت الذي حاولت فيه السلطة استعادة مواقعها عبر الخطاب، كان الواقع على الأرض يتحرك في إتجاه آخر، يرسم خريطة نفوذ جديدة تحكمها دينامية المجتمع أكثر مما تحكمها القيادات.
تراجع الاحزاب
في قلب هذا التحوّل، يبرز تراجع تدريجي لأحزاب لطالما شكّلت الركيزة الأساسية للمشهد السياسي في العاصمة، مقابل تمدد مجموعات أكثر مهارة في العمل المدني والخدماتي، خصوصاً بين الأحياء المتوسطة والفقيرة. انحسر الحضور الشعبي للقوى اليمينية التقليدية داخل بعض المناطق التي كانت تُعتبر خزّاناً انتخابياً ثابتاً لها، ليس بفعل تبدّل القناعات فحسب، بل بسبب تراجع القدرة على تقديم خدمات مباشرة في ظل الأزمة الاقتصادية. هذا الانكماش فتح الباب أمام منافسين محليين لملء المساحة الفارغة ببطء وفعالية.
عودة نفوذ العائلات
وفي موازاة ذلك، استعادت بعض العائلات التقليدية موقعها التاريخي كمرجعيات محلية، مستفيدة من تغيّر المزاج العام تجاه الأحزاب. هذه العائلات، التي تراجعت أدوارها خلال العقدين الأخيرين، استعادت مكانتها تدريجياً عبر سلسلة مبادرات اجتماعية واقتصادية وخدماتية، لتصبح عنصر توازن داخل الدوائر حيث تتراجع ثقة الناس بالسياسيين. حضورها يتوسع اليوم على قاعدة العلاقات الشخصية والثقة وليس الخطاب السياسي، الأمر الذي يعيد إحياء واحدة من أقدم شبكات النفوذ في بيروت.
وبعد تراجع الأحزاب السنية والمسيحية، عادت بعض العائلات البيروتية لتؤدي دورًا متجدّدًا، خصوصًا في: البلديات، النقابات، الهيئات الاجتماعية، الجمعيات الوقفية.
مصدر بيروتي مخضرم يقول: "الناس رجعت للعائلة... لأنها هي الوحيدة التي ما زالت قادرة على تأمين الحد الأدنى من الدعم".
الشبكات الاجتماعية
ويبرز أيضاً تمدد غير صاحب للشبكات الاجتماعية التي بنت قدراتها على قاعدة المبادرات المحلية الصغيرة: مجموعات أهلية، روّاد نشاط مدني، جمعيات تعمل على ملفات الصحة والتعليم والإغاثة. هذه الأطراف التي لم تعتمد على التمويل السياسي ولا على الولاءات الحزبية، بدأت تتحول إلى وسيط فعلي بين الأهالي والدولة، وتسد الفراغ الذي تركته المؤسسات الرسمية. ومع انتشارها الأفقي، أصبحت تمتلك قاعدة تأثير ملموسة، قد تشكل لاحقاً قوة تفاوضية في أي استحقاق انتخابي.
حضور لأئمة المساجد
في الخلفية، تتحرك شخصيات اجتماعية مستقلة، بعضها من أئمة المساجد، وبعضها من المتطوعين المدنيين وروّاد المبادرات المناطقية، ونجحت في تعزيز حضورها عبر قدرة استثنائية على إدارة الأزمات اليومية. هؤلاء لا يطرحون أنفسهم كمنافسين مباشرين للأحزاب، لكنهم يتحولون تدريجياً إلى نقطة ارتكاز في الأحياء، يجمعون الناس حول خدمات أساسية ويكتسبون ثقة تتجاوز الخطاب السياسي. تقديرات المتابعين تشير إلى أنّ تأثير هذه الشخصيات قد يترجم بين 6 و12% في أي استحقاق مقبل، وهي نسبة كافية لقلب النتائج في دوائر حساسة.
المشهد البيروتي اليوم لا يخضع لميزان قوة ثابت. القوى التقليدية تحاول استعادة زمام المبادرة من خلال إعادة تفعيل حضورها داخل بعض القطاعات المهنية، فيما تواصل المجموعات المدنية ترسيخ نفوذها على الأرض. وبين الطرفين، تظهر شبكات اجتماعية متفرّعة تكتسب قوة تصاعدية، من دون أن تتورط في الصراع السياسي، لكنها تبدو أكثر قدرة من غيرها على التأثير في اتجاهات الناخبين.
النتيجة أنّ بيروت تتجه نحو خريطة نفوذ متعددة الطبقات: أحزاب تتراجع تدريجياً، قوى خدماتية تتمدّد، عائلات تستعيد دوراً تاريخياً، ومجتمع مدني يتحول شيئاً فشيئاً إلى لاعب لا يمكن تجاهله. هذا التوزع الجديد يعكس ليس فقط أزمة الثقة بالأحزاب، بل ولادة مشهد سياسي واجتماعي مختلف، يفرض على الجميع إعادة حساباتهم قبل أي استحقاق انتخابي مقبل.
غياب المظلة السنية الموحدة
من جهة ثانة، شكّل غياب الرئيس سعد الحريري و "المستقبل" عن المشهد السياسي الضربة الكبرى للتوازن السني في العاصمة.
أحد المستشارين السابقين في تيار المستقبل يقول لـ"الديار" إن "الفراغ ترك القواعد يتيمة، وفتح الباب أمام عشرات المجموعات الصغيرة للدخول إلى الساحة".
الجماعة الاسلامية
وعلى الضفة المقابلة، برزت حركة صامتة لـ"الجماعة الاسلامية" التي ركّزت حضورها على العمل الخدماتي، مستفيدة من الانهيار المعيشي لتثبيت مواقع نفوذ غير صدامية. في السنوات الأخيرة، ظهر أنّ شبكاتها الاجتماعية قادرة على الوصول إلى فئات كانت خارج دائرة تأثيرها سابقاً، خصوصاً في المناطق التي ضربتها الأزمة بقوة. القدرة على التدخل السريع في الملفات المعيشية منحتها مساحة إضافية داخل الشارع، من دون أن تتحول إلى صعود سياسي معلَن، بل نفوذ اجتماعي يمهّد لحضور انتخابي في اللحظة المناسبة.
ووفق مصادر بيروتية: لـ"الديار" فإن "اللواء أشرف ريفي حقق تقدّمًا محدودًا، لكنه بقي خارج قدرة الهيمنة".
اما الجماعة الإسلامية فرفعت حضورها الخدماتي والتعبوي خصوصًا في الطريق الجديدة والمزرعة.
بينما تعيد شخصيات اجتماعية مستقلة بناء نفوذ مناطقي، مثل روابط المساجد والمبادرات المدنية.
إلا أن المشهد السني بقي بلا مرجعية واحدة، ما جعل الصوت السني "متفلّتًا" وأكثر تقلبًا مقارنة بكل المراحل السابقة.
تمدد "القوات" والكتائب
على المقلب المسيحي، تشهد الأحياء المسيحية في بيروت (الأشرفية، الرميل، المدور) انتقال جزء من الشارع التقليدي نحو المعارضة الحزبية التقليدية، وتحديدًا القوات والكتائب، وذلك على حساب بيوتات بيروتية كانت تاريخيًا نافذة ، وأصحاب المؤسسات التقليدية.
مسؤول قواتي في بيروت يقول لـ"الديار": ان "انتفاضة 17 تشرين أعادت جزءًا من الشارع إلى الخيارات الحزبية الواضحة، خصوصًا مع انهيار الثقة بالسلطة المركزية".
اما "التيار الوطني الحر" فحافظ على وجود منضبط في بعض اللجان والأحياء، لكنه تراجع عدديًا بفعل: الأزمة الاقتصادية، وتراجع شعبية القيادة، وخروج كوادر شبابية باتجاه مجموعات مستقلة.
مصدر متابع يصف وضع التيار بـ”التراجع المُسيطر عليه” دون فقدان البنية التنظيمية.
"الثنائي الشيعي"
شيعياً، في المصيطبة، الباشورة، زقاق البلاط، الكرنتينا وبعض الأحياء المتداخلة طائفيًا، يحافظ "الثنائي الشيعي: على حضوره التقليدي، خصوصًا عبر: الجمعيات الخيرية، المراكز الصحية،
ويقول قيادي في "الثنائي" لـ”الديار": "بيروت ليست ساحة صراع بالنسبة إلينا، بل امتداد اجتماعي طبيعي لعائلات مستقرة منذ عقود».
ولم يتأثر "الثنائي" بـ "انتفاضة" الشارع كما الأحزاب الأخرى، لكنّه عزّز العمل الاجتماعي ورفع حضور “الخدمات السريعة” المرتبطة بالصحة والطوارئ، ما ثبّت حضوره في مقابل انهيار الدولة".
تشتت "المجموعات التغييرية"
وشكّلت انتخابات العام 2022 لحظة صعود تاريخي للمجموعات التغييرية في الدائرة الأولى والثانية من بيروت. لكن خلال عامين فقط، تشتّتت هذه القوى بسبب: الخلافات الداخلية، غياب القيادة الموحدة، التنافس على المقاعد والرمزية، وفقدان التمويل الخارجي والداخلي.
ويشير أحد أعضاء هذه القوى لـ"الديار": الى "اننا لم نستطع التحوّل إلى مشروع سياسي متماسك... الناس خاب أملها بنا".
ورداً على سؤال من بقي منها، يقول ان هناك: "مجموعات نقابية، ومبادرات محلية في الصحة والتعليم، وشبكات شبابية صغيرة لكن من دون ثقل انتخابي واضح".
خريطة جديدة
في المحصلة، تعيش بيروت، بعما مرت في ذروة الغضب الشعبي في العام 2019، عادت اليوم إلى واقع "النفوذ المتعدد الرؤوس".
لا قوة واحدة قادرة على السيطرة على العاصمة، ولا شارع يمثّل أغلبية واضحة.
المعادلة الجديدة تقوم على تحالفات ظرفية، وتوازنات دقيقة بين الأحزاب والعائلات والمجموعات المدنية، في وقت تبدو فيه الانتخابات المقبلة مرآة حقيقية لمدى قدرة القوى التقليدية على استعادة بيروت... أو خسارتها نهائيًا لمصلحة صعود قوى جديدة لم تتبلور بعد.
علي ضاحي - "الديار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|